أكبر كذبة نشأ عليها أروع أدب في تاريخ النصارى القديم

هل أحرق نيرون روما حقاً؟ تعرّف على أكبر أكذوبة في التاريخ المسيحي القديم

في مساء يوم 18 يوليو/تموز، وخلال الصيف الحارق لعام 64 بعد الميلاد، بدأت ألسنة اللهب تتصاعد من أحد المتاجر أسفل سيرك ماكسيموس في روما. وسرعان ما امتدت النيران لتطال منازل ومتاجر مجاورة، وتصل إلى السيرك نفسه. ظلت النيران مشتعلة 6 أيام، واحترقت المدينة عن بكرة أبيها، ولم تسلم من الأذى سوى 4 مناطق سكنية من أصل 14 منطقة في روما.

كان نيرون، الإمبراطور الحاكم آنذاك، والمعروف بوحشيته وحبه للمسرح، قد قدَّم المسيحيين ككبش فداءٍ لهذه الكارثة. ووفقاً لكتاباتٍ تراثية وما ذكره مؤرخون في وقتٍ لاحق، تمثَّلت إحدى صور العقاب في تفنن نيرون بابتكار وسائل إعدامٍ غريبة في حق المسيحيين، فتارةً ألبسهم جلود حيواناتٍ وجعل الكلاب تمزقهم إرباً، وتارةً غمسهم في القطران واستخدمهم كمشاعل بشرية لإضاءة المساء ليلاً أثناء حفلات العشاء التي كان يقيمها.

ووفقاً لسجلات التراث المسيحي، فقد أُلقي القبض على اثنين من أهم الحواريين، وهما القديسان بطرس وبولس، وأُعدما في أعقاب الحريق. لكن بينما كان حريق روما حقيقةً تاريخيةً مدمرة، فهل استهدف نيرون المسيحيين بالفعل نتيجةً لذلك؟

تشكّك كانديدا موس، الأستاذةٌ في مجال العهد الجديد والمسيحية الأولى بجامعة نوتردام في مقال لها بموقع الديلي بيست الأميركي في هذه الرواية الشهيرة.

إذ تقول: “ترِد إلينا معظم الأدلة التاريخية على اضطهاد نيرون للمسيحيين من كتابات المؤرخ الروماني تاسيتس، الذي دوَّن كتاباته في الفترة بين عامي 115 و120 بعد الميلاد، أي بعد 50 عاماً على الأقل من وقوع الأحداث التي يصفها.

ووفقاً لكتابات تاسيتس، لام شعب روما نيرون على نشوب الحريق، فرَدَّ نيرون بإلقاء اللوم على المسيحيين. ويقول تاسيتس في إحدى كتاباته: “ألقى نيرون اللوم على المسيحيين، وأذاقهم أعنف وسائل التعذيب، وكان المسيحيون مكروهين بسبب أفعالهم البغيضة”، حسب الكاتبة.

وكان العديد من المسيحيين يُجمعون، ويُلقى القبض عليهم، ويخضعون لاستجوابٍ بغرض الحصول على معلوماتٍ عن المسيحيين الآخرين في المدينة، وفي نهاية المطاف، أُدين “عددٌ هائل” منهم، وأُعدموا.

هل قتل أمه؟

وفي بعض السير الذاتية الرومانية، كان معروفاً عن نيرون أنَّه قتل أمَّه، وبالتالي، فهو قادرٌ بالتأكيد على ارتكاب هذا النوع من الأعمال الوحشية، لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ رواية تاسيتس صحيحة، حسب المؤرخة كانديدا موس.

ولفتت إلى أن برنت شو، وهو مؤرخٌ كلاسيكي شهير يعمل في جامعة برنستون أكد في مقالة الأخيرة التي نُشرت في مجلة الدراسات الرومانية بعنوان “The Myth of the Neronian Persuction” أو “أسطورة الاضطهاد النيروني”، أنَّ رواية تاسيتس ما هي إلا تلفيقٌ لاحق لما حدث.

وأوضحت أنها تميل إلى الاتفاق مع شو لأنَّها ناقشتُ شيئاً مشابهاً في كتابها “Myth of Persuction” أو “أسطورة الاضطهاد”.

متى ظهر مسمى المسيحيين؟

وأشار شو إلى عدم وجود أي إشاراتٍ إلى مسيحيين في كتابات جميع المؤرخين الرومان الذين سبقوا تاسيتس، إذ لم يذكر كاسيوس ديو، وهو مؤرخٌ روماني آخر ناقش قضية الحريق العظيم، المسيحيين على الإطلاق، وتعتمد بعض المصادر الرومانية الأخرى التي صدرت لاحقاً وناقشت قضية الحريق اعتماداً كلياً على رواية تاسيتس.

ولفتت المؤرخة إلى أنَّ سويتونيوس، وهو الكاتب الروماني الوحيد في القرن الثاني، إلى جانب تاسيتس الذي ذكر سوء المعاملة التي كان يلقاها المسيحيون على أيدي نيرون، لم يربط هذه الاضطهادات بالحريق العظيم. وقال سويتونيوس إنَّ المسيحيين تعرضوا للاضطهاد لأنهم كانوا “خرافةً جديدة وشريرة”، ‏حسب تعبيره.

ووفقاً للكاتبة “فلعل أكثر الأدلة التي تهدم هذه الأكذوبة هو استخدام مصطلح “مسيحي”. إذ إنَّ أتباع عيسى الأوائل كانوا يهوداً.

وحين كان تاسيتس يدوِّن كتاباته في آسيا الصغرى (تركيا حالياً) خلال القرن الثاني الميلاد، اعتمدوا تسمية “المسيحي”، ولفتوا انتباه السلطات الرومانية، ولكن لم يتضح على الإطلاق ما إذا كان المسيحيون هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذا الاسم أم أنَّهم كانوا معروفين به في الستينيات من القرن الأول بعد الميلاد، فعلى سبيل المثال، لم يستخدم بولس هذا المصطلح مطلقاً.

وكما أوضح ديفيد هوريل، وهو أستاذٌ في جامعة إكستر، يبدو أنَّ الاستخدام الأول لكلمة “مسيحي” في الكتابة قد ورد في إنجيل بطرس، الذي كُتِبَ في أواخر القرن الأول.

وتقول الكاتبة إنَّ المسيحيين لم يكونوا يحملون هذا الاسم في عام 64 بعد الميلاد، لقد كانوا يهوداً. ولا يُمكن لنيرون استهداف جماعة لم تكن موجودةً في عصره، حسب تعبيره.

شائعات

فما الذي حدث بالفعل؟ يقول شو إنَّ هناك شائعاتٍ انتشرت بعد الحريق تفيد بتورِّط نيرون في نشوبه، وهو ما جعل نيرون يرد على هذه الشائعات بمعاقبة بعض المُخرِّبين، لكن هؤلاء الناس لم يكونوا مسيحيين بالفعل.

وفي الخمسين عاماً التي انقضت بين أحداث عام 64 بعد الميلاد والعصر الذي عاش فيه تاسيتس، حدث ربطٌ بين هؤلاء الأشخاص الذين عاقبهم نيرون والمسيحيين، لأنَّه في عصر تاسيتس وسويتونيوس كان المسيحيون معروفين بإثارة المشكلات، حسب الكاتبة.

كيف أعدم نيرون بطرس وبولس؟

إذاً، فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لموت بطرس وبولس؟ كما أشرتُ في كتاب “Myth of Persecution”، لم تذكر التدوينات الأولى عن موت بطرس وبولس الحريق العظيم على الإطلاق.

وفي الواقع، استغرق ربط هذين الحواريين بهذه الأحداث عدة قرون. وتذكر أول إشارةٍ إلى موتهما (وهي وثيقة مسيحية تحمل اسم Clement) أنَّهما أُعدَما بسبب “الغيرة”.

وقال العديد من الباحثين إنَّ كلمة “الغيرة” تُشير هنا إلى نزاعاتٍ داخلية بين المسيحيين، وهو ما يعني أنَّ سبب انتهاء المطاف ببطرس وبولس في السجن ثم تعرضهما للإعدام قد يرجع إلى بعض أعضاء الكنيسة الآخرين.

واختتم شو مقالته بالقول إنَّ موت كلٍّ من بطرس وبولس لا علاقة له بالحريق العظيم. مضيفاً أنَّه في كلتا الحالتين، لم يكن هناك علاقةٌ بين موتهما وكونهما مسيحيين، ويفترض شو أنَّهما كانا متهمين في الواقع بتكدير السلم العام.

هل وقع حريق روما إذاً؟

بالتأكيد لا يعني ذلك أنَّ حريق روما العظيم لم يكن ذا أهميةٍ تاريخية، إذ تتعدى أهميته مجرد آثار الحريق المدمرة. فهذه لحظةٌ مهمة في تاريخ مكافحة الحرائق، على حد تعبير سارة بوند، وهي أستاذةٌ مساعدة في جامعة آيوا الأميركية. لكنَّ الكثير مما نظن أنَّنا نعرفه عن الحريق ما هو إلا نتاج أساطير مرتبطة بإمبراطورٍ مستبد.

وحتى يومنا هذا، هناك أشخاصٌ يستخدمون تعبير “عزف أثناء احتراق روما” في إشارةٍ إلى سلوك نيرون، لكنَّ آلة الكمان لم تكن قد أُخترعت حتى القرن الحادي عشر، وحين اندلع الحريق، كان نيرون على بُعد 35 ميلاً من قصره. صحيحٌ أنَّه تعبيرٌ رائع، لكنَّه يحمل بين طياته تاريخاً مزيفاً إلى حدٍ كبير.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى