خترنا لكم: بين ابن سلمان وابن دهقانة /أحمد فال بن الدين صحفي وكاتب

انتهى عبدُ الرحمن بن خلدون (ت 808 ه) بعد تأمله الطويل في الحضارة

الإسلامية إلى أن الجيل الثالث من الأسر الحاكمة غالبا ما يكون جيلَ

تقويضٍ وإفناء، لا جيلَ بناءٍ وبذلٍ وعطاء. ولعل تأمل سيرة محمد بن

سلمان يجعل هذه النظرية الخلدونية جديرة بالاعتبار هذه الأيام.

  يقول ابن خلدون: «وأما الجيل الثالث فينسون عهدَ البداوةِ والخشونة

كأنْ لم تكن، ويفقدون حلاوةَ العِز (…) ويبلغُ فيهم الترف غايتَه بما تفنَّقُوهُ

من النعيم وغضارة العيش. فيصيرون عيالاً على الدولة، ومن جملة

النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم (..) ويُلبِّسون على الناس

في الشارة والزي وركوب الخيل (.. ) وهم في الأكثر أجبنُ من النسوان

على ظهورها.» (مقدمة ابن خلدون،1/ 86).

فهذا الجيل يجهل الأسباب السياسية والأخلاقية التي أوصلتْ سلَفَه

إلى السلطة، ويظن الحكمَ والثروةَ حقا من حقوقه الطبيعية، فيغرق في

ثمرات الحكم –من ثروةٍ وسلطة- مع إغفال كامل للأسس التي قام

عليها الحكمُ ابتداءا؛ وهكذا ينهدم البنيانُ الذي شيده الأجداد.

ومن تأمل سياسات ابن سلمان وسماته الشخصية يفهم عمق نظرية

الفيلسوف الحضرمي ودقة التوصيف أعلاه. فالرجل لا يملك جلَدَ جده

عبد العزيز في مداراة المعارضين، ولا قدرته على كظم الغيظ ومجاراة

الرجال، ولا صبره على زعماء القبائل والشيوخ، ومداراته وجوهَ الناس،

بل هو أقرب لجيل من الأمراء تربى وراء الجدران الطويلة، وفي أحضان

الخدم المُسَخَّرة، وهو جيل ينسى أخلاق السياسية ويتبنى » أخلاقَ

الدَّايات» كما لاحظ ابن خلدون. (مقدمة ابن خلدون،1/ 94) .

ومن خصائص هذا الجيل أنه لا يستطيع الدفاع عن سلطانه ولا أرضه.

بل قصاراه إذلال الرعية، والاستسلام للغازي، وهو أمر بيّن في

الانكشاف الاستراتيجي للمملكة هذه الأيام. يقول ابن خلدون: «فإذا جاء

المطالبُ لهم لم يقاوموا مدافعته. فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى

الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، ويصطنع من

يغني عن الدولة بعض الغناء (شركة بلوكْ ووتر وأخواتها، والجنود

السودانيون في اليمن) حتى يتأذّن بانقراضها، فتذهب الدولةُ بما

حملت». (مقدمة ابن خلدون،1/ 86).

وقد ناقش كثير من الدارسين نظرية ابن خلدون تلك، ونقدها أقوام

بوجود نماذج من دول لم تخضع لنظرية السقوط عند الجيل الثالث، وهو

أمر مشاهد في إمارات وممالك خليجية وعربية في المشرق والمغرب.

لكن من تأمل كلام ابن خلدون يستشف منه أن الرجل يتكلم عن الحالة

التي تبقى فيها الدولة في الطور الطبيعي، بحيث لا تهتدي إلى إيجاد

طرق لتجديد نفسها، وتمتين شرعيتها والحفاظ على الأسباب التي

أهلتها للحكم ابتداءا. أما إذا فهم قادة الدولة طبيعة الزمان والمكان

وجدُّوا في تجديد نضارة الدولة فيمكن للحكم الاستمرار أجيالا أخرى كما

هو مشاهد.

ولا أظن ابنَ سلمان –بسياساته الخرقاء وفريقه العجيب-منشغلٌ بتجديد

شباب دولةٍ هرمة، أو بناء شرعية سليبة، غير أننا إذا نظرنا إلى ظهور

الرجل في هذه اللحظة من عمر الثورة المضادة قد نعتبر وجوده أمرا

ضروريا –بالمعنى الهيغلي-لدفع التاريخ إلى الأمام.

العقل في التاريخ

لعل قراء هيغل يذكرون رأيه حول العقل في التاريخ؛ وفكرته القائلة أنّ

كل ما هو واقعيٌ فهو عقلي، دون تسليمنا -طبعا- بالجانب القدَري الذي

يفهمه بعض دارسي هيغل من تلك الأطروحة. فكل فعل قصدي يتجسد

في الواقع إنما هو واقع عقليٌ وجزءٌ من مسار يدفع التاريخ إلى الوعي

بالحرية. فتصرفات المستبد الأخرق، وغباؤه الأهوج تساهم – من باب ما

يسميه هيغل «مكر التاريخ» – في دفع البشرية إلى الأمام، وإلى

الوعي بحريتها والسعي لنيلها، سواء عقِل الناس ذلك أو لم يعقلوه،

وسواء قصده المستبد أو لم يقصده. وبذا فظهور الرجل بسياساته غير

المسؤولة واقع عقلي يسرّع حركة التاريخ ويصنع الوعي في منطقة

أحوج ما تكون للوعي. وسأكتفي هنا بالإشارة إلى عناوين تحققت خلال

الفترة الماضية في السعودية أظنها ستساهم في صناعة الوعي ودفع

عجلة التغيير.

الحرائق المقدسة

تميز ابن سلمان بين من سبقه من حكام آل سعود بخاصية القدرة على

إشعال الحرائق دون سبب مقنع لذلك. فقد أدخل بلاده أزمة دبلوماسية

مع دولة بحجم كندا من أجل تغريدة، وفعل الأفاعيل في اليمن دون

هدف واضح، وسجن الآلاف من خيرة أبناء بلده على الصمت، وأصدر

قوانين مخيفة تعاقب على التغريد. ومن آخر ما فعل الغدرُ بصحفي بين

جدران قنصلية أُسِّستْ لخدمة المواطنين، وإنكارُ وقوع الجريمة أصلا، ثم

الاعترافُ بها والتضحيةُ بأقرب خدامه ليسلم بجلده.

 فالحرائق التي يشعلها الرجل ما بين الرياض وصنعاء وإسطنبول

وبنغازي، والقرارات المكشوفة التي يتخذها ستساهم في فتح عيون

مجتمع أدمن النوم طويلا، ولم يتعوّد التحديق جهةَ قصور الأمراء. بل

اعتاد حسن الظن بـ»أولياء الأمور» وهو سادرٌ في أجواء الرخاء الريْعي

المُخَدِّر.

لقد أرغم ابنُ سلمان محكوميه على التفكير في أخلاق من يحكمهم،

وكيف يحكمهم، وامتحنهم أخلاقيا واقتصاديا حتى وصلوا الحافة فانتبهوا.

نسف كل مواضعاتهم الثقافية والاجتماعية؛ فأذلّ كبراءهم، ووسع

سجونهم، فأيقظهم كل ذلك من سباتهم العميق اللذيذ الطويل. لقد

كشفت لهم سياسات الأمير الشاب زيف عالم الأحلام الذي يعيشون

فيه. وعليه فحقبة الرجل حقبة تاريخية بالتعبير الهيغلي؛ لأن الحقبات

الهادئة المنسجمة التي تغيب فيها التناقضات ليست حقبات تاريخية.

احتراق اللحى

يعرف كل دارس للتاريخ أن لحظات الصدمات المدوية تخلق الوعي

الصلب. ومنذ جاء الرجل وهو يصدم مجتمعه صباح مساء. فبفضل

سياساته تمزّق لحافُ الاستغفال الذي كانت تتدثر به جيوش المطاوعة

التابعين لوزارة الداخلية. لقد استخدمهم في غداة واحدة فخرجوا إلى

الشارع منكشفين لا يملكون ذرة من مصداقية. لم يترك أحدا منهم

يتوارى فيستخدمه أميرٌ في حقبة أخرى؛ بل جرّهم كلهم إلى الفضاء

العام عرايا، خَدَماً يدورون مع القوة المنفصلة عن الحق، يُخضعون

المصحفَ للسيف، ويصفقون للقوي إذا صفع الأرملة، وللجندي إذا ركل

اليتيمَ، محوّلين رسالةَ الإسلام العظيمة إلى رسالة استسلام للقوة.

  لقد كشف سترهم –بسياساته التوظيفية الفجة- فظهروا شياطين

ناطقين لا شياطين خُرْساً، فصدق عليهم الحديث النبوي: «الساكت عن

الحق شيطانٌ أخرس» من باب أوْلى.

إن سقوط عمائم مثل السديس، والعريفي، والقرني، والعفاسي،

والمغامسي، وغيرهم.. خطوة جبارة في التاريخ. فكم كانت الأمة

ستحتاج من كتب وندوات ومحاضرات لإقناع الناس بأن هؤلاء المطاوعة

جبناء مخادعون، يدورون مع القوة ضد الحق؟

كم كان الخليجيون سيحتاجون من جهود لإقناعهم بأن مشايخ وزارة

الداخلية السعودية لا يؤتمنون على الدين، وأن معيار صدق العالِم

المسلم هو قوله للأمير الظالم: «لا». ولعل اتفاق الأمة على تقليد

الأئمة الأربعة دليل على ذلك. فما منهم أحد إلا جُلد أو سُجن أو قُتل.

لقد ساهمت تلك اللحى البلاستيكية في تدجين الروح الثورية الثاوية

بين جوانح الشباب المسلم، بعدما أوهمتْه أن الدين يمكن أن يعيش

خارج فضاء الحرية، وأن العدالة يمكن أن تتم دون عقود اجتماعية تكفل

للأمة محاسبة حكامها.  لقد قامت تلك اللحى بدور خطير في إعاقة

العقل المسلم وإقناعه أن المَرْساةَ الضخمة -المسماة بالمملكة-

يحكمها حكام صالحون يسعون للصالح العام للإسلام والمسلمين.

من المهم جدا سقوط كل اللحى التي تعارض الحرية والشورى، لكن

سقوط اللحى السعودية أهم من غيره. فالقوم يُطلُّون على المسلمين

من أكناف مكة والمدينة – «حيث أرسى أوتادَهُ الإسلامُ!».  وهي حقيقة

تمنحهم شرعية في أذهان العوام. فأي سقوط لهذه الطائفة ومنطقها

وسلطانها ومِنَحِها الدراسية وتآشرها وتُمورِها.. سيساهم في هرولة

التاريخ إلى الأمام.

من حسنات ابن سلمان أنه أقنع الدنيا بسفالة هذه الطبقة في أسابيع.

أسطورة خدمة الحرمين

رسّخ حكام السعودية –خلال العقود الماضية- فكرة خدمة الحرمين

الشريفين، وتلقّب ملوك البلاد بذلك اللقب؛ فهماً منهم لمحورية حوزة

تلك البقاع التي تهفو إليها قلوب الناس في فجاج الأرض.

 ورسخت السعودية مبدأ عدم تسييس الحج والعمرة، وحافظتْ على

تلك السياسية بدرجة معقولة. غير أن الأمور تغيرت خلال السنوات

الماضية. فقد قامت السلطات بمنع آلاف المسلمين من الحج لأسباب

سياسية، بل خطفتْ معتمريْن ليبييْن بين الصفا والمروة (محمود علي

رجب، ومحمد الخدراوي) وسلمتهما لحفتر، وطردت المعتمرين القطريين

في بداية حصارها للدوحة. ثم بدأت سياسية رسمية في تحويل تآشر

الحج والعمرة إلى رشىً يشتري بها الولاء السياسي الفج.

ساهم الأمير ابن سلمان في إسقاط فكرة خدمة الحرمين تلك، وفتحَ

عيون كثير من المسلمين على ملف إدارة الحج والعمرة، وضرورة

مراجعة التسليم للسعودية بالانفراد بتسيير الركن الخامس من أركان

الدين.

  قد يتساءل مشفق عن إمكانية قيام ابن سلمان –هذه الأيام- بخطوات

عاقلة يتلافى بها ملكَ آبائه. غير أن الناظر إلى مستشاري الرجل يعلم

بداهةً أن المراجعة والتعقّل وتدبير الملك ليست من شأن هؤلاء. فمن

تأمل فريق إدارته تذكّر وصف العقاد لفريق يزيد بن معاوية في كتابه

«أبو الشهداء الحسين بن علي»: «لم يبق ليزيد مشيرٌ واحد ممن

نسمّيهم بأنصار وبُناةِ العروش، وإنما بقيتْ له شرذمةٌ على غراره،

أصدق ما توصف به أنها شرذمة جلادين… يقتلون من أُمِروا بقتله

ويقبضون الأجرَ فرحين. أولئك الذين تمتلئ صدورهم بالحقد على بني

آدم ولاسيما من كان منهم على سواء الخُلُق وحُسْنِ الأحْدُوثة» مثل

الأستاذ جمال خاشقجي رحمه الله.

  لست من المتفائلين بتضرر ابن سلمان من عاصفة الغدر بجمال، بل

أزعم أن النفاق الغربي سيحميه ويطيل سلطانه المتهاوي بعض الوقت.

فما دامت خزائن السعودية ملأى سيظل الرجل يبيع ويشتري ويلعب

حتى تحين لحظة الانهيار الكبرى.

وتلك شنشنة قديمة في بعض أحفاد بناة الأمجاد. يروي الشباشبي

في كتاب «الديارات» أنّ الأمير ابنَ دهقانة كان من ولد إبراهيم بن محمد

بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه. وكان واليا للبصرة أيام

فتنة الزنج فباعها لزعيم الزنج بثلاثين ألف دينار أنفقها على حفلاته

ومراكبه ولذاته. وكان يقول: «أكلتُ حتى زمِنتُ (أي مرضتُ) وأريد آكل

حتى أموت!»

فما ثمَّ إلا الترف حتى التلف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى