مقال يشيد فيه عبد الباري عطوان بإمرأة موريتانية؛ فما هو سبب الإشادة؟
كانَ الأسبوعُ الحاليّ هو أسبوعُ ثَورةِ الغَضب التي سادَت مُعظم المُدِن العربيّةِ والإسلاميّةِ احتجاجًا على قرارِ الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب نَقلْ السّفارة الأمريكيّة إلى القُدس المُحتلّة، لكن هُناك مَواقِف إنسانيّة رائعة تَجلّت على هامِش الاحتجاجات، تَعكِس، على بَساطَتِها، مَدى وَطنيّة أصحابِها، وإخلاصِهم للقضيّة الفِلسطينيّة.
أوّل هذهِ المَواقف كانت للطيّار الأُردني يوسف الهملان الدعجة الذي تَمرّد على تَعليمات شركة الطيران الوطنيّة الأردنيّة (الملكيّة)، وقال في المَيكروفون لرُكّابِه “أنّه يُحلّق الآن بطائِرتِه فَوق فِلسطين المُحتلّة وعاصِمَتها القُدس″، وتَحوّل إلى بَطَلٍ شعبيّ حَظِيَ بحَملةِ تضامنٍ واسِعةٍ في الأردن، وأرجاءٍ أُخرى من الوَطن العربيّ، تأييدًا لمَوقِفه الوطنيّ المُشرّف، وتَصدّيه بطريقَتِه الخاصّة، وبقَرارٍ فَرديٍّ، لقرارِ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نَقل السّفارة الأمريكيّة من تل أبيب المُحتلّة إلى القُدس المُحتلّة.
المَوقف الثّاني كان لسيّدة موريتانيّة تتظاهر يَوميًّا لوَحدِها أمام السّفارة الأمريكيّة في نواكشوط حامِلةً العلم الفِلسطيني انتصارًا لعُروبة وإسلاميّة القُدس المُحتلّة، وإدانة لقَرار الإدارة الأمريكيّة بتَهويدِها والاعتراف بِها عاصِمةً لدَولة الاحتلال الإسرائيليّ.
هذهِ السيّدة التي تَركتْ رِعاية أطفالِها لوالِدتها، وتَغيب عن عَملِها لساعاتٍ يوميًّا، كانت تُردّد بأعلى صَوتِها، وكاميرات السّفارة تُراقِبها “بالرّوح بالدّم نَفديكَ يا أقصى.. لا سَفير ولا سَفارة ولا علاقة بأمريكا”.
أمّا المَوقف الثّالث فيَنعكس في إقدامِ صاحِب مطعم شاورما فِلسطينيّ في مُخيّم جباليا بقِطاع غَزّة، على وَضع يافِطَةٍ أمام مَطعمِه تُؤكّد تَخفيضات بنِسبة 80 بالمئة للزّبائن الكوريين الشّماليين، ووَضع صُورةٍ كبيرةٍ للرئيس كيم جونغ أون في واجِهة المَحل تَقديرًا لرَفضِه قرار الرئيس الأمريكي ترامب، وإدلائه بتصريحاتٍ تتّهمه، أي ترامب، بالجُنون، وتَهديده بقَصف العُمق الأمريكي بصواريخِه الباليستيّة.
صاحب المطعم إبراهيم رابا الفَقير المُعدم، مثل زميلته الموريتانيّة، التي تَبعُد عَنه مسافةً لا تَقِل عن خَمسة آلاف كيلومتر، يُدرك جيّدًا أنّه لا يُوجد مُواطنون كوريون شَماليون في قِطاع غزّة، يُمكن أن يَستفيدوا من هذا العَرض، ولكنّه يأمل أن يأتوا إلى القِطاع في يوم ما كقُوّة مُراقبة، وأرادَ أن يُعبّر بخَطوَتِه الرمزيّة تَقديره لَهُم ولرئيسِهم الشّجاع.
لا نَشُك مُطلقًا بأنّ هُناك مَواقِف أُخرى كَثيرة على المِنوال نَفسه من الوطنيّة النقيّة الصّادرة من القَلب، لم تَلتقِطها عَدسات المُصوّرين، فإذا كانت بَعض الحُكومات العَربيّة تَتواطأ مع ترامب وتُؤيّد قراره في الغُرف المُغلَقة، وتُطبّع العَلاقات مع إسرائيل، حَليفها الجديد، فإنّ الشّعوب العَربيّة والإسلاميّة لا يُمكن أن تُفرّط بالقُدس المُحتلّة، أو أيِّ ذرّةِ تُرابٍ فِلسطينيّة أُخرى، ومُستعدّة للشّهادة من أجلِ إنهاء الاحتلال إذا ما أُعطيت لها الفُرصة، وانهارَت سُدود الحِماية العَربيّة للحُدود الإسرائيليّة والمُستوطنون داخِلَها.
لا يَسعنا في هذهِ الصّحيفة “رأي اليوم” إلا أن ننحَني تقديرًا واعتزازًا وإعجابًا للطيّار الأُردني النّشمي، والسيّدة المُوريتانيّة الشّجاعة، وبائِع الشّاورما في مُعسكر جباليا الصّامد، وكُل الشّهداء والجَرحى في العالَمَين العَربيّ والإسلاميّ الذين انتفضوا انتصارًا للحَق في مُواجهة العُدوانَين الإسرائيليّ والأمريكيّ.
الأمّتان العَربيّة والإسلاميّة، اللّتان تَضُمّان مِئات المَلايين من الشّرفاء، ومن بَينهم هذهِ النّماذج الثّلاثة، لا يُمكن إلا أن يَنتصرا في نِهاية المَطاف، والنّصر صَبرُ ساعَةٍ.. وهو آتٍ حَتمًا.