محمد فال ولد سيدي ميله
في سنة 2013، تناولت الصحف جريمة قتل بطلها الفنان سيدي ولد دندني وضحيتها رجل يدعى إلياس ولد محمد. وفي يوم أمس الأول، وقبل شهرين فقط من نهاية السنة 2017، عادت الصحف لتتناول خبرا آخر مفاده أن الفنان فاضل ولد أحمد زيدان قتل رجلا يدعى مالك ولد بوكرن. العمليتان أثارتا من النقاش والتعاليق ما لم تثره أية جريمة قتل في موريتانيا، ليس لبشاعتهما، وإنما لأن القاتلين ينحدران من طبقة “إيكاون” التي يحرم عليها تجاوز “حدودها”.
طبيعة النقاشات والتعاليق توحي بأن الطبقية في البلاد تعني البقاء إلى الأبد داخل الدوائر والمهام والأدوار التقليدية. وفي حالة الفنانيْن المذكورين، فثمة محاولة لـ”احتكار العنف”: حتى العنف!.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان الفنان يوسف ولد محمد ولد لوليد (الملقب اكْلَيْبْ) ولد ميكنّي حليفا لجناح أهل محمد لحبيب المعروف بـ”أولاد فاطمه” (بنت محمد ولد امحمد ولد سيد أحمد). كان الفنان قرينا وصديقا مخلصا للأمير أحمد سالم ولد محمد لحبيب وأشقائه (المختار السالم، أعمر سالم، إبراهيم السالم، لفجح، لبات). وبالتالي كان مناوئا لجناح أولاد محمد لحبيب من غير فاطمه (سيدي ولد امبيريكه بنت عمير، واعلي ولد اجمبت امبودج). دبر أحمد سالم انقلابا على أخيه سيدي، بمشاركة فعلية من همر فال ولد بوزفره وولد اعلي ولد التونسي والمطرب المحارب يوسف ولد اكليْبْ. خلال العملية الانقلابية التي جرت سنة 1871 عند بوركبَه (25 كلم غرب المذرذره) قـُـتل الأمير سيدي ولد محمد لحبيب وصديقه سيد أحمد ولد ابراهيم اخليل. فنهض اعلي (ولد اجّمبت) للثأر لدم أخيه سيدي (ولد امبيريكه) أول خليفة للأمير محمد لحبيب، وهكذا، خاض حربا شرسة ضد إخوته غير الأشقاء (أولاد فاطمه). كان الانقلابي المحارب، المطرب يوسف ولد اكليب، يتحدى الطرف الآخر نثرا وشعرا. فكثيرا ما ردد متبجحا:
يوسف ماهُ خايفْ من حَدْ ** فالدنْيَ مَحَدُّ عالمْ
بالمختار السالم واحْمَدْ ** سالم وابراهيم السالم
كان الناس يقولون، تعليقا على مشاركة المطرب في قتل الأمير: “هاذ إيكيوْ اخبطـْ فاظـْهَرْ ما كط اخبط فيهْ إيكّيوْ سابْكُ”. إنها تورية واضحة الدلالة، فالفنان لا يضرب غير الأوتار بالنسبة لمنطق القوم حينئذ.
ظلت الحرب سجالا بين الطرفين. وفي سنة 1873، كان جيش أحمد سالم مخيما عند بلدة أيشايَه (35 كلم جنوب غرب المذرذره). كان الأمير يلعب “ظامتْ” مع الشاعر امحمد ولد أحمد يوره ويقارضه الشعر الحساني، فيما كان صديقه المطرب المحارب يوسف ينشد الأشعار ويحرض المقاتلين. فجأة داهمهم جيش اعلي ولد محمد لحبيب، فوقعت معركة شديدة مات فيها الأمير أحمد سالم وأخوه إبراهيم السالم، وانهزم أولاد فاطمه وجناحهم ليستتب الأمر للأمير اعلي. خلد ولد احمد يوره هذه المعركة، فقال، عندما طاف به خيال العاليَه بنت اعلي الكوري في معمعان المعركة:
ذكرتك والأبطالُ طارت قلوبُها ** وخيلُ الأعادي بالمنية تـُـعلفُ
وشبّتْ نيار الحرب من كل جانب ** وغنى أبوبكر وهينم يوسفُ
انقلبت المعادلة، ولم يعد هناك أي سند (في إمارة الترارزه) للمطرب الانقلابي يوسف بعد هزيمة أولاد فاطمه. فكر الرجل، المحنك سياسيا، في الإلتحاق بإمارة البراكنه على اعتبار أن علاقاتها بإمارة الترارزه لم تكن جيدة في تلك الفترة. وفعلا وصل المطرب المحارب يوسف ولد اكليبْ إلى إمارة البراكنه ساعيا إلى “اللجوء السياسي”. كان ذلك في عهد الأمير سيدي اعلي ولد أحمدو (1858-1893). فكر الأمير في هذه النازلة الاجتماعية-السياسية غير المسبوقة. وفي الأخير اتخذ قراره “التاريخي” المفزع.
لقد أمر رجاله بحمل المطرب المحارب إلى الضفة، وشده شدا محكما مع عمود حديدي، ومن ثم رميه داخل النهر. وتقول المصادر التاريخية المكتوبة، إن الأمير لما سُئل عن معنى هذا الإعدام الفظيع، قال: “إنما فعلت به هذا زجرا للمطربين عن العرب”. فالأمير يريد أن يردع أية محاولة من الفنانين لدخول دائرة “العنف السياسي”.
اليوم، وبعد قرابة 150 سنة على إعدام المطرب يوسف ولد اكليْبْ، ما زلنا نسمع نقاشا لا يدين القتل بحد ذاته، وإنما يدين دخول “إيكاون” لـ”دائرة العنف” المحتكرة. لقد أعادتنا عملية ولد دندني، وعملية ولد أحمد زيدان، إلى مربع أحداث عملية ولد اكليْبْ، لنتذكر أن “طبقيتنا” ما تزال عصية على العلاج. من صفحة الكاتب الكبير محمد فال ولد سيدي ميله