و تبخرت المعارضة
محمد الامين الفاضل
تبخرت المعارضة الموريتانية ـ وبمكوناتها الثمانية ـ في لحظة سياسية حاسمة وبالغة الأهمية، تبخرت المعارضة الموريتانية واختفى قادتها وجمهورها العريض في أرض الله الواسعة، فتركوا بذلك الشيوخ لوحدهم في ساحة المواجهة، تركوهم مكشوفي الظهر لسلطة باطشة قررت أن تنتقم منهم، وأن تذيقهم سوء العذاب بما قدمت أيديهم من “لا” في يوم السابع عشر من مارس من العام 2017.
يقول بعض المعارضين في محاولة غير مقنعة لتبرير هذا الاختفاء المثير للاستغراب، ولا أريد أن أقول المثير للشكوك، بأن سبب هذا الاختفاء هو أن المعارضة كانت قد أنهكت بسبب أنشطتها المكثفة التي سبقت استفاء 5 أغسطس، هذا بالإضافة إلى أن هذه الفترة هي فترة عطلة وفترة استراحة يصعب فيها تنظيم وقفات ومسيرات في العاصمة نواكشوط.
لا أحد يطلب من المعارضة الموريتانية أن تأتي بحشود كبيرة خلال أشهر العطلة، ولكن ذلك لا يعني بأنه من حق المعارضة أن تنسحب بشكل كامل من المشهد في أشهر العطلة، وأن تترك الشيوخ وعددا من النقابيين والصحفيين في ساحة مواجهة مكشوفة مع السلطة، أن تتركهم لوحدهم يؤدون الدور التقليدي للمعارضة ودون أن توفر لهم هذه المعارضة أقل أشكال الدعم والمؤازرة.
كان بإمكان قادة المعارضة أن يخرجوا في وقفتين كل أسبوع للتضامن مع المشمولين في الملف رقم (04 ـ 2017) ، كان بإمكانهم أن يقفوا كل اثنين ولدقائق معدودة أمام إدارة الأمن الوطني للتضامن مع المشمولين في الملف أثناء حضورهم الأسبوعي للتوقيع عند إدارة الأمن، وكان بإمكانهم أن يقفوا كل خميس مع الشيوخ في وقفتهم الأسبوعية أمام مقر غرفتهم التي تم الاستيلاء عليها من طرف بعض الأجهزة الأمنية.
كان بإمكان قادة المعارضة، وبمن تيسر له الحضور من الجمهور المعارض، أن يؤازروا الشيوخ بوقفتين أسبوعيتين، وذلك هو أضعف أنواع المؤازرة، وكان عليهم أن يستمروا في تلك الوقفات في انتظار الافتتاح الدراسي ليعلنوا حينها عن مسيرة حاشدة للتضامن مع الشيوخ ولتذكير الشعب الموريتاني بعدم شرعية الاستفتاء، وبعدم شرعية نتائجه.
وكان بإمكان المعارضة، لو أنها كانت تمتلك القدرة على التفكير من خارج صندوقها العتيق، أن تستغل العطلة استغلالا إيجابيا، وأن تجعل منها مناسبة لزيادة الضغط على السلطة الحاكمة، بدلا من أن تجعل من هذه العطلة مناسبة للاختفاء والتبخر في فضاء الله الواسع.
لقد استطاع الشيوخ لوحدهم، وبدون أي دعم من المعارضة التقليدية، أن ينظموا وقفات احتجاجية في بعض المدن في الداخل، فنظموا ثلاث وثقات في باسكنو، ووقفة في المذرذرة، ودعوة إلى وقفة في وادان. ألم يكن من الممكن أن تتسع خريطة الاحتجاج هذه لتشمل مدنا أخرى في الداخل؟ ألا يكفي لتحقيق ذلك أن تنسق المعارضة مع بعض الشيوخ المشمولين في الملف لتنظيم وقفات مشتركة للاحتجاج ضد عقاب الشيوخ على تصويتهم ب”لا” على تعديلات دستورية لا يرون لها أي أهمية؟
ألم يكن من الممكن أن ينسق مثلا حزب اتحاد قوى التقدم مع شيخ تجكجة لتنظيم وقفات احتجاجية في مدينة تجكجة، وأن ينسق حزب تواصل مع شيخ مكطع لحجار لتنظيم وقفات احتجاجية في مكطع لحجار، وأن ينسق حزب حاتم مع شيخ كبني، وأن ينسق حزب التكتل مع شيخ بوتلميت أو مع الشيخة المعلومة لتنظيم وقفات احتجاجية في مدينة المذرذرة، وهكذا..
لو كان هناك تنسيق جدي بين المعارضة والشيوخ لكان بالإمكان تنظيم وقفات احتجاجية ـ على الأقل ـ في دوائر الشيوخ المشمولين في الملف، وبذلك تكون المعارضة الموريتانية قد حافظت على حضورها في المشهد في لحظة سياسية بالغة الدقة والأهمية.
للأسف الشديد لم تقدر المعارضة الموريتانية أهمية اللحظة، ولم تحاول أن تفكر من خارج صندوقها العتيق، فغابت عن الفعل وعن المشهد في لحظة سياسية بالغة الأهمية، متجاهلة بذلك أن تنظيم وقفة واحدة في شهر أغسطس أو في شهر سبتمبر من العام 2017 قد يكون أكثر أهمية وأكثر جدوائية من تنظيم عدة وقفات في أي وقت آخر.
إن غياب المعارضة الموريتانية عن المشهد في هذه الظرفية الحساسة قد يساعدنا مع أسباب أخرى لا يتسع المقام الآن لبسطها في الإجابة على السؤال: لماذا المعارضة الموريتانية ليس فعالة؟ ولماذا فشلت هذه المعارضة رغم ما تمتلك من قدرات هائلة في تحقيق ما استطاعت بعض المعارضات الإفريقية من تحقيقه بإمكانيات أقل؟
من حقنا أن نبحث عن الأسباب الحقيقية التي جعلت العمل المعارض في موريتانيا غير فعال، ومن حقنا أن نتساءل عن أسباب اختفاء وتبخر المعارضة الموريتانية في لحظة سياسية فارقة، وذلك على الرغم من أن هذه المعارضة تمتلك من المقدرات والمؤهلات الشيء الكثير، فهي تمتلك:
1 ـ احتضان جماهيري واسع، ويظهر ذلك من خلال الحضور الشعبي المكثف لمسيرتها، وذلك على الرغم من الروتين والتكرار الذي يطبع تلك المسيرات، كما يظهر أيضا من خلال المقاطعة الشعبية الواسعة لاستفتاء الخامس من أغسطس.
2 ـ السيطرة شبه الكاملة على مواقع التواصل الاجتماعي، وانخراط أو على الأقل انحياز أغلب الشباب الموريتاني وأغلب النخب الموريتانية للخطاب المعارض.
3 ـ استقطاب عدد كبير من الشعراء ومن الفنانين، وربما تكون المعارضة الموريتانية اليوم هي أول معارضة تتفوق على السلطة من حيث استقطاب الشعراء والفنانين.
4 ـ انخراط عدد لا بأس به من رجال الأعمال في العمل المعارض، وبمن فيهم رجل الأعمال الذي يعد الأكثر إنفاقا على السياسة وعلى أهلها حسب ما تقول التسريبات والتسريبات المضادة.
5 ـ دخول بعض الجاليات الموريتانية في الخارج على الخط، واستعدادها للانخراط في العمل المعارض.
6 ـ بروز معارضة لا فتة في موريتانيا الأعماق، وظهور معارضة قوية داخل الموالاة التقليدية (الشيوخ مثلا).
يمكن أن نضيف إلى كل ذلك أن السلطة الحاكمة تعيش اليوم في ارتباك وتخبط، وتمر الآن بأكثر لحظاتها ضعفا. فلماذا غابت المعارضة في مثل هذا الوقت؟ ولماذا فشلت المعارضة التقليدية في توظيف كل هذه المقدرات الهائلة في أفعال نضالية وسياسية فعالة؟