جوانب مضحكة في جريمة القنصلية

لن يجد المرءُ وصفاً للقاتل أعدل وأحسن من وصف: جريمة في جحر الضب، وجحر الضب خرِب، بلا مخارج غير مدخله.

 واستدعاء وصف من الأثر النبوي، سببه تغريدة من الأثر، لمستشار في القصر الملكي السعودي، هدَّد بقتل خاشقجي بالإشارة والتلميح، وأحياناً بالتصريح «حتى كان لو كان متعلقاً بأستار الكعبة»، وفي فتح مكة، أعلن المنادي عن أمكنة الأمان، ومنها «إن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، لكن أين المؤمِّن من أبي سفيان، فلم يكن أبو سفيان يكذب، ولم يكن يغدر، وقد غدر القاتل بالذي استأمنه، وهو مواطن سعودي، وليس حوثياً، ولا قطرياً، وليس عكرمة بن أبي جهل، ولا عبدالله بن أبي السرح، وقد نالا العفو كلاهما.

 والجريمة التي شاء الله لها أن تكون فاضحة، قد أعيت إمبراطورية القاتل الإعلامية، وأخرسته، فليس لها إلا اتهام قطر، اتهاماً مرسلاً من غير طوابع أو بريد، أو اتهام تركيا، باشتباهها بسيّاح لطفاء ينتسبون جميعاً إلى النخبة الحاكمة المحيطة بفاتح مكة العظيم.

قصدوا تركيا للسياحة عدة ساعات، قضوها في القنصلية، وليس في جامع السلطان أحمد، ولا على ساحل أنطاليا، وعادوا بعد أن قضوا وقتاً ممتعاً في مهنة النجارة. أو بالردِّ على خبر جريمة القنصلية ببث أغاني نانسي عجرم، والله لو أحييتم أم كلثوم، ما أخرجتكم من جحر الضب، ولو غنَّت لكم «سلام الله على الأغنام»، وكانت هناك محاولة قبل الجريمة لإحيائها، عبر تكنولوجيا «الهولوغرام»، أو «التصوير التجسيمي»، الذي يعرض صورة طيفية للأشخاص، لا أم كلثوم، ولا ياسين أقطاي، الذي تحدَّثَ عن طرف ثالث: الطرف الثالث هو الشيطان.

 والجريمة مضحكة، لأن فيها مختفيين اثنين، وزير الخارجية السعودي، هو الثاني، وقد تبادر هوليود إلى إنتاجها فيلماً، ويصير من أحسن عشرة أفلام بوليسية كوميدية في العالم، إلى جانب أفلام “جوني انكليش»، و»النمر الوردي»، بطولة المفتش المضحك جاك كلوزو، وفلم «فلنصبح رجال شرطة»، وسيكون فيلمنا بعنوان «جريمة في جحر الضب».

رفض أمس محمد المسعري وصف الجريمة بالمهلهلة، فهي جريمة شبيه، ونمط الشبيه من أقدم الأنماط السينمائية، قال: إن الجريمة لا تخلو من ذكاء، وإن كتيبة الإعدام كانت قد اصطحبت رجلاً يشبه خاشقجي، وفهمت أنهم كانوا ينوون خطف خاشقجي الحقيقي، وترك الشبيه للسيدة خديجة جنكيز، التي تذكر باسمها الأول على فضائيات السعودية هزواً، كانت بالانتظار، وستعرف الضلالة من الهدى، وأن أمن المطار كشفه.

 عذراً أيها السادة، فثمة جانب مضحك في المأساة. الجريمة التي يرتكبها الأغبياء أصعب فهماً من جرائم الأذكياء.

 وفي الفيلم الكوميدي، الذي سنراه قبل أن نرى مشروع نيوم على البحر الأحمر، سيكون لأعضاء فريق الجريمة أسماء حركية، قد يكون اسم الطبيب الذي أتى للإشراف على العملية الجراحية أبوقراط مثلاً، وقد يكون اسم الملاك الحارس الذي جاء لحراسة القتلة عند الاشتباك مع الشرطة التركية «أنا والمنشار وهواك».

  انطلقت موجة من السخط على تغطية إمبراطورية السعودية الإعلامية، «العربية» خاصة، للجريمة، ووقوفها موقف المتفرج، والصواب أنها وقفت موقف المتلبس بالجرم المشهود.

كتب صحافي معارض سوري: إن قطر انتصرت على السعودية إعلامياً، وكأن قطر والسعودية تغطّيان مونديال رياضة، أو سباقاً للهجن، فالجريمة وقعت في القنصلية السعودية، والقنصليات العربية ثقوب سوداء، هي فروع لوزارة الداخلية في الخارج. سخر لبناني له برنامج تلفزيوني، من الجزيرة وضيوفها، الذين يرجمون بالغيب، لكن هذا لا ينفع، ولا يدفع التهم، فالجريمة قد وقعت في جحر الضب.

إن إعلام الهولوغرام والانتقام، ينفخ في قربة مقطوعة، ممزقة، مثل جثة الشهيد، الذي هجمت عليه ضباع جائعة، فهناك جريمة صارت دولية وعالمية، مع سبق الإصرار، وعناد الحمار، والترصد. نعم كان يمكن قتله بحادث سير، لكن حادث السير ليس فيه شفاء الغيظ وسورة الانتقام، كان لا بد من تعذيبه وتصويره، حتى يذهب غيظ جوني أرابيك، والجريمة تكبر مثل جريمة قتل الصربي الشاب غافر يلو برنسيب، ولي عهد النمسا، أمير المجر وبوهيميا الأرشيدوق فرانز فرديناند، وهو يتجول في مدينة سراييفو بسيارة مكشوفة مع زوجته التي تصغره بأربعة أعوام، ففجّر الحرب العالمية الأولى، التي تورّطت فيها الخلافة العثمانية، ولذلك تتمهل تركيا في إعلان النتائج، وتدغدغ القاتل على طريقة الصعايدة.

  تركيا تقسط المعلومات من أجل استدراج قتلة صهرها، وجسّ نبضهم. نسمع نبض قلوبهم يضرب على الفضائيات، وكان ذلك مفيداً، مثل لاعب البوكر، الذي يطرح أوراقه حتى يرى أوراق الخصم، أملاً في أن يعترف أحد المجرمين، أو ينهار، أو يعرض صفقة.

جمعَ القتلة بين أمور متباينة هي: انتقام البدوي، وحبكات أغاثا كريستي، ورعب أفلام هالوين، التي يكثر فيها نشر الضحايا بالمنشار. تقول تقارير صحفية: إن جوني أرابيك حقود، أرسل الكتيبة بطائرتين، وعبروا البحار، ومعهم آلات التعذيب للتمويه، هذا لا يخطر على بال روائي، مثل ماريو بوزوز مؤلف رواية العرّاب، ليس لمعالجة مواطنهم من بأس حلَّ به كما تفعل الدول الكريمة، ولا لمكافأته على حسن النصيحة، وإنما للانتقام.

مضت واحدة من أجمل ورود الربيع العربي، دخل الشهيد واثق الخطوة إلى القنصلية، وكأنه يدخل دار أبي سفيان، والشهيد صحافي محبوب «واضح كطلقة مسدس»، سهل العبارة، شجاع، يقول كلمته حتى في واشنطن، فيذكر محاسن الإخوان المسلمين وفضلهم على السعودية، في أميركا، وأثرهم في الربيع العربي، ويشيد بفلسطين في آخر تغريدة، ويقول في آخر مقابلة له مع نور خانم، إنه يحسد الجزيرة، التي وقفت إلى جانب الحق.

 جريمة أعراب اليانكي المنتقمين في إسطنبول، فضيحة بأجراس وجلاجل، ويمكن وصفها «بالمدخلية»، وقد ذكرنا جحر الضب في البداية، فالقتل على الهواء أشد من الزنا والخمر على التلفزيون.

 قبل أيام كتبتُ تغريدة على صفحتي، أذكر فيها أنّ الحَجاج ظلَّ يصرخ كل ليلة بعد قتل سعيد بن جبير: مالي ولسعيد بن جبير. ونسيت أن أكتب أنه لم يمكث بعدها أسبوعين حتى هلك. وأن ناصحين نصحوا جوني أرابيك أن يتأسى بالصين، التي لا تخضع للإنذارات، وفرق كبير بين الصين والسعودية، وبين التنين والضب، وكان يمكن للسعودية أن تكون أقوى من الصين من غير قنابل نووية، لو شاءت.

صار جمال خاشقجي رمزاً لكلمة حقٍّ عند سلطان جائر.  /أحمد عمر كاتب سوري

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى