هل نحن دولة بيظانية أم دولة موريتانية؟/ محمد يحي أخو

المقال يسلِّط الضوء على الهوية الموريتانية بطريقة غير نمطية تقليدية تعطي إجابات معلَّبة للقارئ، بل هدفها طرح تساؤلات أمام القارئ؛ للبحث عن إجابة تريح فضوله، فلكل منا إجابة تناسبه، فلا توجد إجابة جاهزة تُرضي كل القراء؛ لهذا تم طرح المقال بأسلوب يحتِّم على المتلقي استخدام عقله ومسح غشاوة العاطفة عن عينيه للرؤية بشكل موضوعي ومنطقي.

فنحن بحاجة ماسة إلى شجاعة التساؤل وتحليل الإجابات المعلبة المحزومة التي تم إرضاعها لنا منذ طفولتنا، وأن نفكر خارج الإطار خارج المألوف، خارج السائد، خارج المعطى، خارج المطلوب.

فلماذا يظلّ التساؤل حول الإجابات المعلبة مجرد استثناء بدلاً من أن يكون هو القاعدة؟

فمجتمعات القطيع ربَّتنا على أن مجرد استخدام الأسلوب الاستفهامي التساؤلي يعتبر في حد ذاته إهانة؟

إن انتشار الأسلوب الاستفهامي هو المحرك لتقدم المجتمعات، فما يوجد لدينا من تاريخ لا يكاد يتعدى شذرات من الحقيقة تعبر عن سرد تاريخي ورؤية مَن كتبه؟

ولعل هذا ما يجعل من الحديث عن تشكّل هوية جامعة أمراً مبْهماً غير واضح المعالم، وهذا ما يفسّر وجود مشاريع بديلة عن الكيان الواحد مثل القبلية، وبالتالي تبلوّر هوية وطنية حتى هذه اللحظة؟

للإجابة على هذه التساؤلات يتحتم علينا أولاً أن نحدد معنى الهوية الوطنية، وربط ذلك بوعينا، بمدى أهميتها وتأثيرها في بلورة دولة المواطنة.

بالنسبة للهوية الموريتانية فهي هوية عربية إفريقية أمازيغية إسلامية، فهي محصلة عصور طويلة من الامتزاج بين هذه المكونات مثلها مثل العديد من الدول العربية المجاورة.

في موريتانيا تتعايش عدة إثنيات هم “العرب” و”البولار” و”السونوك” و”الولوف”، والأمازيغ والعرقيات الإفريقية هم السكان الأصليون للبلاد، فالعرب يتكلمون اللهجة العربية “الحسانية”، أما العرقيات الأخرى فلكل مجموعة لغتها الخاصة.

إن إعلان الاستقلال كان بمثابة إعلان معركة طويلة من أجل استعادة الهوية؛ حيث تم تجنيد أغلب النخب التي تعلمت لحماية التواجد الفرنسي في موريتانيا وإقصاء اللغة والثقافة العربية.

إلا أن هذا الإقصاء الذي مورس ضد اللغة والثقافة العربية في بداية بناء الدولة مارسته اللغة العربية على اللغات والثقافات الوطنية الأخرى التي تكتسب شرعيتها من نفس المصدر الذي تستقي منه اللغة العربية شرعيتها ألا وهو الدستور الموريتاني.

إذاً لماذا هذه الرؤية التي تتعمد صهر هوية مجتمعنا المتنوعة والمتعددة في هوية واحدة؟
ما الهدف من محاولة إظهار أن الصراع بين العربية والفرنسية فقط؟ ماذا عن باقي اللغات الوطنية الأخرى السونوكية والبولارية والولفية؟
أليسوا أكثر أحقية من حيث التاريخ المكاني والزماني من العربية والفرنسية الوافدتين على هذه الأرض؟
وهل فعلاً نمتلك تصوراً مشتركاً لهويتنا الوطنية وخاصة في بُعدها الثقافي؟
وهل تتناقض هذه الهوية مع حقوق الجميع في المواطنة والخصوصية الثقافية؟

يُبدي الكثير حساسية غير مبررة عند الحديث عن المكوّنات القومية، وذلك انعكاس لميزان القوى الذي هو منذ القدم لصالح نظرة إقصائية استعلائية للعرب، فهم لا يريدون فتح باب البحث في الموضوع خشية تغيير هذه النظرة، فلجأوا إلى تسمية سهلة يفترض أن “تُرضي الجميع”، موريتانيا “همزة الوصل” بين العالمين العربي والإفريقي.

فخاض العرب في تلك الآونة نضالاً تجاوز الإطار المطلبي وزعزع هيمنة اللغة الفرنسية مع تزامُن نشاط التيار القومي العربي، وأضاف شيئاً من الأمل في مستقبل هوية (العرب)، لكن هذا التيار كان يعبِّر في بداية أمره عن مشاعر القهر القومي، ليس بميزان التعقل، لكن بالعاطفة والتعصب، مما أدى إلى تجاهل العرقيات الأخرى ومطالبهم، وبحجة تشبثهم باللغة الفرنسية صنف نشطاء العرقيات الأخرى على أنهم أعداء؟

في فبراير/شباط 1966 وقعت أحداث عنف بين التلاميذ العرب وتلاميذ من العرقيات الأخرى على خلفية إدخال اللغة العربية في بعض صفوف الإعدادية.

امتدت هذه الأحداث إلى عدة مدن، وكانت بداية لتحول عميق لدى المكون الإفريقي الذي اعتبر أن محاولة إدخال العربية في التعليم من طرف السلطات ورغم محدوديتها بمثابة إقصاء لهم وفرض لغة عليهم لم يختاروها، مما يهدد مستقبلهم وهويتهم الثقافية، ثم توسعت لتشمل المطالبة بالمساواة والقضاء على تهميشهم في هذا، ما عجَّل بميلاد منظمة سرية تأسست بعد أحداث 1966 تحت اسم “جبهة تحرير أفارقة موريتانيا” والمعروفة اختصاراً بـ”فلام”.

طغى اسم ونشاط هذه المنظمة على المشهد “الإفريقي” بأكمله؛ حيث لم يظهر فيه أي توجه آخر ولا أحزاب ولا منظمات مما ميّز “القضية الإفريقية” بوحدة نضال لافتة لم يشُبها أي اختلاف ولا أي انشقاق خلافاً لأحزاب ومنظمات أخرى تختلف وتنشق وتتفتت إلى كيانات جديدة.

هذه الميزة مضافاً إليها ديناميكية وروح المخاطرة والتضحية التي يتمتع بها أعضاء المنظمة، هذا الإصرار المستميت على تعريب الدولة يلقي في أذهاننا تساؤلاً هل فعلاً الدستور الموريتاني ينص على أن اللغة العربية لغة الدولة دون شريك؟

ولماذ لا تحترم الثقافة العربية المكونات الأخرى وتعطيها الحق في عدم الانصهار في الثقافة العربية والتمسك بثقافاتها بنفس مستوى تمسك العرب بثقافتهم؟

إن التوظيف الديني والسياسي والقبلي وطغيان النزعات الفردية بتدبير الشأن العام بعيداً عن أي شكل من أشكال المشاركة كلها أمور ما زالت تهدد كيان الوطن.

ظلَّ العرب يتهمون العرقيات الإفريقية بأن أغلبهم غير موريتانيين، وأنهم متجنسون جدد لا يبلغون 9% من عموم السكان عند الاستقلال، وهؤلاء يوصمون العرب بالعنصرية والإقصائية.. إلخ.

والواقع أن كلاً منهما إذا أردنا أن نحكم معه جزءاً من الحقيقة فالعرب” البيظان” كانوا في بدايات حركتهم يتبنون خطابا عنصرياً وإقصائياً واضحاً، وإن عملوا على تهذيبه فيما بعد مستفيدين من مرحلة نضج قد مروا بها، لكن بقي ذلك الخطاب المستفز مطبوعاً في الذاكرة إلى اليوم كما أنهم في نشاطهم المطلبي الثقافي تجاهلوا حق المكون الإفريقي في تطوير ثقافاته ولغاته.

ما يصدر اليوم من تصريحات لبعض النخب السياسية والشخصيات العامة في البلاد والمواقف الحياتية اليومية يعكس حجم الاختلاف حول ما يجب أن يكون ثوابت وطنية من وجهة نظرهم، ولكن كيف يمكن أن نتجنب أن تكون هذه الثوابت أداة لإقصاء آخرين هم جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع؟

إن ظروف نشأة هذا الكيان ونظرة البعض إليه تارة باعتباره جزءاً لا يتجزأ من كل هو الكل العربي ما يعني قبول هويته في هذا الإطار أو ذاك، وتارة ككيان قائم بذاته لا عربي ولا إفريقي بالمعنى الجيني، هي أمور تضيف مزيداً من الغموض على الهوية الوطنية، فالعلاقة بين القطر القومي والأممي وبين الأصلي والوافد وبين الانتماء الجغرافي والانتماء الثقافي ما زالت تقسم الموريتانيين حول هويتهم.

هل يسلم الموريتانيون اليوم بأنهم بلد متعدد الأعراق والإثنيات، تتعايش فيه عرقية عربية تتشارك الثقافة والقيم والعادات والتاريخ مع عرقيات أخرى بولارية وسونوكية وولفية لها مميزاتها الخاصة؟

هذا يفترض في المضمون الثقافي ضرورة التعايش والتفاعل بين الثقافات الوطنية المتعددة، فإلى أي مدى وصل هذا التفاعل بين اللغة العربية واللغات الوطنية الأخرى؟

ظاهرة تعدد الإثنيات تطفو بين الحين والآخر مثيرةً الجدل حول قدرة الدولة على تحقيق التوازن بين حقوق الأقليات وحماية ثقافتها وتراثها؟

هذه المجموعات ظلَّت مهمشة من الاستقلال إلى الآن كلما حاولت الحديث عن حقوقها الاجتماعية والطبيعية تعرضت للتخوين والعمالة؟

يقولون إن العائق الأساسي لكل عمل يرمي إلى إصلاح أي خلل في واقع البلد يكمن في تدني الوعي والتعصب وضيق الأفق لمطبات يكاد يكون من المستحيل معها إنجاز وحدة وطنية للمجتمع.

إن النخب المثقفة هي السبب في هذا الخلل لتشبثها بالأفكار القبلية المتعالية الإقصائية هؤلاء أكثر فتكاً بوحدة المجتمع من الطبقة غير المتعلمة.

أستعير مقولة مالك بن نبي: “إن كلمة الحق ليست هدية تُعطى ولا غنيمة تُغتصب، إنما هي نتيجة حتمية للقيام بالواجب، فهما متلازمتان، فالشعب لا ينشئ دستور حقوقه إلا إذا عدّل وضعه الاجتماعي المرتبط بسلوكه النفسي تجاه جميع أجزائه”.

أختم بأنه يحتّم علينا الوقوف مع الحق وليس العاطفة، فما فائدة تعليمنا وثقافتنا إذا كنا نخاف أن نخرج خارج الإطار الذي يرسمه المجتمع لنا، ويحرم علينا أن نصدح بالحقيقة، فالعلم يساوي الوعي، والوعي يساوي التغيير، هكذا يكون العلم بتغيير الأنماط والسلوكيات المجتمعية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى