من مناقب شيخي أحمد خون ولد المصطف رحمه الله

تصادف هذه الأيام الذكرى الرابعة عشر لوفاة شيخى وخالى الكريم، المقرئ المتقن، كثير التلاوة، جيد الفقه، والحاذق الفطن، والوجه الوجيه، والتاجر الصدوق النزيه، والعبد الزاهد: أحمد خونا ولد المصطف.
ولهذا أحببت أن أذكر بنزر يسير من مناقبه الجمة التى تشنف الآذان بسماعها وتمتعها بسيرته العطرة.
ولد شيخى- رحمه الله- حوالي: 1344هـ/ الموافق: 1925م، ببلدية انواملين بولاية لعصابة، من أبوين كريمين، كان مسك ختام نسلهما المبارك، فتربى وترعرع على مكارم الأخلاق التى تلقاها من أبويه الكريمين اللذان كانا يغمرانه بالعطف والحنان، قبل أن يتركاه يتيما فى محيط اجتماعي عرف بالكرم والشهامة والمروءة، والتكافل الاجتماعي والتآخي.
فنشأ فى وسط علمي، وتربوي نخبوي، وارث لقيم عنفوان “الهمة الإيمانية الخالصة” فى تملك معالي الأمور من علم وسيادة، وتعفف وإباء، ومروءة وشهامة، عاض عليها بالنواجذ.
وفي سن مبكرة التحق المرحوم بدروس التعليم، فاصطحب اللوح والقلم، وانكب على تعلم القرءان وعلومه من رسم وضبط، ومقرإ وتجويد على يد عدة مشايخ أجلاء من حفاظ وعلماء عشيرته، مثل سيدى ولد أحمد مولود، واللالى ولد دحان، وعبد ولد المصطف، وصدف ول المصطف، وقد سلموا له جميعا بإتقان كتاب الله، عز وجل، وبذلك أصبح من الحفظة الكرام البررة، الذين هم أهل الله وخاصته، بعد أن حظي بإجازتين فى قراءة نافع بروايتي قالون وورش، من الشيخين المقرئين الجليلين: اللالى وعبد، رحم الله الجميع برحمته الواسعة.
ثم إن الله ألهمه رشده وهيأه للخير فشمر عن سواعد الجد والتحق بمحظرة محمد المصطفى ولد اعل امبطالب؛ ليتفقه فى الدين، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقه فى الدين) متفق عليه.
فمكث فيها مقبلا على التعليم، ثم انتقل إلى محظرة الامام ولد المانه الجكني؛ للغرض نفسه، فدرس ما شاء الله له من مختلف الفنون الشرعية، وخاصة مختصر خليل، وفى تلك الآونة جاء أحد المشايخ من الحج فلما راى مستوى علمه الجيد قال له: لو كنت فى السعودية لكنت ءاية، ولفزت فوزا عظيما.
ثم اضطر إلى مزاولة العمل، فولى وجهه شطر التجارة؛ لكونها أشرف المهن، وأكثرها نفعا وبركة، وذلك سعيا للكسب الحلال، ورفضا للبطالة والخمول، والاتكال على الآخرين.
وكان- رحمه الله- رجلا قرءانيا بامتياز، لا يفتر عن ذكر الله، وتلاوة القرءان ءاناء الليل وأطراف النهار، والمطالعة، وقد علق قلبه بالمساجد إلى درجة أنك لا تكاد تراه إلا فى حالة ذهاب أو إياب منها، ولو قدر لشوارع كيفه أن تتكلم وأنطقها الله بالحق لشهدت له بلسان فصيح أنه من المشائين إلى المساجد فى الظلم، وفى أوقات الحر والقر.
وكان ينوب كثيرا عن إمام مسجد سكطار فى الخطبة والإمامة فيه.
وكان نور القرءان، ونضارة قيام الليل يبدوان على وجه شيخنا الوضاح، بشكل لا يخفى على ذى عينين. فقد كان- رحمه الله- يمتثل قول الله تعالى: (ومن اليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا).
وكثيرا ما ترددت عبارة (قال القرطبي) لإفادة الجماعة، على لسان أحمد خونا- رحمه الله- وذلك من كثرة استدلاله بتفسير القرطبي الذى لازم وأدمن على مطالعته، والنهل من معينه، بالإضافة إلى مكتبته الزاخرة بالتفسير والحديث والفقه وغير ذلك، حيث كانت له مكتبة كبيرة من المخطوطات معظمها بخط يده، استفاد منها كثير من الناس، وخاصة كتب محمد مولود حيث كان يدرسها للطلبة والتلاميذ.
كان- رحمه الله- منفقا على المساكين، كافلا للأرامل، متواضعا محترما، محبوبا ذا خلق، وقورا مهيبا، لا يرضى المذلة، ولا يقبل المعرة، ولا يبيت على الضيم، وقد عرف بفصاحة اللسان، وقوة البرهان، فلا يحاجج أحدا إلا أفحمه بالحجج الساطعة، والأدلة القاطعة.
ولما خلف الشيخ عصر الشباب وراء ظهره علت همته وعزفت عن الدنيا نيته، فيسر الله له حج بيت الله الحرام، وبعد أداء مناسك الحج والعمرة عاد إلى موطنه، ثم تفرغ لتدريس القرءان وعلومه لأبناء حيه.
هذا مع سهره على مصالح المجتمع، وتمثيله لقبيلته فى المحافل العامة والملتقيات الكبرى.
وبعد أن استقر به المقام فى مدينة كيفة عاصمة ولاية لعصابة، فتح بها حانوتا كان أقرب إلى مجلس علم وأدب وفتيا منه إلى محل تجاري حيث كان أهل السوق يؤمونه للفتوى، فيستفتون عن أمور دينهم ودنياهم، ومعاملاتهم،
كما كان حانوته مجلسا ومتحدثا لكبار العلماء والفقهاء، كأمثال العلامة الشيخ أحمد ولد أحمد ولد المختار، والشيخ أحمد ولد الطلبة، والشيخ محمد العاقب ولد ءادو، والشيح محمد محمود ولد ءاكاه وغيرهم كثير جدا، فيتدارسون ويناقشون المسائل الشرعية، ويتبادلون المعارف والفوائد العلمية.
إنه حانوت متواضع لا تكاد تجد فيه بضاعة ذات قيمة مادية كبيرة، غير أن بركة الكسب الحلال كانت كفيلة بجعله مؤسسة خيرية تعين ذا الحاجة الملهوف، وتسد حوائج الناس قدر الاستطاعة، وتكفى مؤونة المنزل، وما ذاك إلا أنه يدرك أن (أطيب الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني.
كان خالى الكريم- رحمه الله- من أعيان القبيلة، ونبلاء الرجال، كثير البكاء من خشية الله، عز وجل، ولا سيما فى ءاخر عمره، زاهدا فى الحياة، متمثلا الحديث الشريف: (من أصبح منكم ءامنا فى سربه، معافى فى بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا) رواه البخاري فى الأدب المفرد، رقم: 300، والترمذي فى السنن، رقم: 2346.
لا يأخذ من الطعام إلا أكلات يقمن صلبه، ويحفظن صحته، فلم يرق له من التصوف إلا ما يتعلق بالاستقامة، ومجاهدة النفس، أما البدع والخرافة فكان شديد النكران والنفور منهما.
وقد عرف -رحمه الله- بالصبر الجميل، فقد دفن سبعة من الأولاد بين الذكور والإناث، كلهم لم يبلغوا الحلم فلا يزيد على أن يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها) رواه مسلم .
وكان- رحمه الله- فى قمة نشاطه، وهو فى السبعين من العمر، حيث لا تراه إلا فى تعليم القرءان وعلومه، أو صلة رحمه، أو تلاوة كتاب الله، أو اعتكاف على مطالعة كتبه، أو انشغال فى خدمة أهله، اقتداء بهدي النبي، صلى الله عليه وسلم؛ لذلك فقوله رحمه الله: (خذ كأسك) عبارة طالما سمعها أفراد الأسرة، أو جلساؤه فى مجلسه العلمي الذين عودهم على تواضعه، ونكرانه لذاته.
وفى صيف 2003م غادر الشيخ منزله بمدينة كيفه متجها إلى نواكشوط؛ لإجراء فحوصات طبية؛ لأمراض كان يعانى منها، وقبل أن يستقل السيارة، كان يستمع إلى تلاوة ولده جمال، وهو يعرض عليه ما يحفظ من القرءان، فلما وصل الغلام إلى قوله تعالى: (هذا فراق بينى وبينك) قال الشيخ بفراسته المعهودة: ما أراك إلا قد نطقت بها.
وصل الشيخ إلى نواكشوط، وأكد له الأطباء خلو جسمه من أي مرض مخيف، وفي إحدى الليالى ءاوى إلى فراش النوم وهو فى وضع صحي جيد، بعد أن أدى ورده من صلاة النافلة التى دأب عليها وأكمل ختمته؛ ليستيقظ فى ءاخر الليل، وهو يعانى من ضيق نفس شديد، فاستنجد بأفراد الأسرة- وهو يردد الشهادتين- لحمله إلى المستشفى، لكنه ما كاد يصله حتى فاضت نفسه فأسلم الروح لباريها.
وكان ذلك فى يوم الجمعة: 13/4/1424هـ/ الموافق 13/6/ 2003م.
خرج الطبيب بوجه كئيب؛ لينعي الشيخ الكبير، فما كان ينهى عبارته حتى اغرورقت العيون، وانسكبت الدموع على الخدود بماء منهمر، وطار الخبر العظيم عبر الهواتف التى أصبحت منبوذة في ذلك اليوم، كأنها جمرة بيد صاحبها ما إن يمسكها حتى يرميها بشكل عفوي.
ترك الشيخ- رحمه الله- سفرا من الذكريات العطرة، والمواقف الجليلة الجميلة يرويها الأقارب والجيران، والمعارف والأصحاب، والعلماء والمشايخ.
كانت تلكم ومضات من حياة خالى الكريم، تذكيرا للأجيال، وإحياء للقدوة الحسنة فى المجتمع، رحمه الله رحمة واسعة، وجمعنا به فى الفردس الأعلى نحن وهو ووالدينا وأشياخنا وجميع المسلمين، وما ذلك على الله بعزيز، وصلى الله على نبيه الكريم إلى يوم التناد وسلم تسليما كثيرا.

سيدي ولد أحمد مولود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى