
عربي بوست : قصة أموال العرب المجمدة في البنوك الغربية، ذهاب بلا عودة !
ذهاب بلا عودة!..
قصة أموال العرب المجمدة في البنوك الغربية
اعتاد الغرب على هذه الطريقة في “تأديب” الأنظمة والدول المارقة من وجهة نظر واشنطن وأصدقائها.
كلما شب حريق في مكان ما، سارع الغرب بإشهار سلاح العقوبات الاقتصادية وتجميد الأموال.
وعندما تصاعد دخان الأزمة الأوكرانية في مطلع 2022 كان أول ما صدر عن عواصم “الناتو” تهديداً أمريكياً غربياً بفرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا، إذا ما قامت بغزو أوكرانيا.
ويرفض الدبلوماسيون الغربيون أن يكونوا صريحين بشأن عقوبات محددة، لإبقاء روسيا في حالة تخمين وتعظيم التأثير الرادع للإجراءات المحتملة.
لكنهم أيضاً لا يمتلكون كتاباً مقدساً للإجراءات العقابية في هذه الحالة، وتاريخهم مع الشرق الأوسط يشهد بذلك.
ذلك أن السياسة لا تعترف بالدقة في تطبيق المعايير، ولكل إجراء عقابي ظروفه ودوافعه وملابسات انتهاء أسباب الغضب الغربي.
أصبحت العقوبات الاقتصادية في السنوات الأخيرة الخيار المفضل في السياسة الخارجية لدى الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، للتعامل مع “تجاوزات” أو تهديدات الخصوم، وذلك بعيداً عن اللجوء للصدامات العسكرية أو المعارك.
لكنها الآن هدف لاتهامات بالانحياز وغياب الشفافية والسطو المتنكر على ثروات الشعوب، وانظروا معنا النماذج التي يقدمها هذا التقرير لتجميد أموال العراق وليبيا وإيران، لنتعرف على الطريق الغامض الذي تسلكه هذه الأموال، والأساليب الملتوية للتعامل معها بعد ذلك عند استعادة بعضها، أو ضياعها إلى الأبد.
في هذا التقرير نستعرض مفهوم تجميد أموال الدول والجماعات التي تعتبرها واشنطن وحلفاؤها والمنظمات الدولية خارجة عن القانون الدولي، ومدى خضوع هذه العقوبات للعدالة والمصالح، ونجاحها في تحقيق أهدافها المعلنة.
ميراث القرون الوسطى
العقوبات الاقتصادية إحدى أدوات الدبلوماسية، لكنها “أداة حادة” تستعملها الحكومات لفرض واقع لا يُمكن تغييره في السياسة أو الحرب.
ظهرت فكرة العقوبات الاقتصادية في القرون الوسطى، في صورة حصار اقتصادي على دولة معادية، أو كوسيلة للتمدد وبسط الهيمنة الخارجية.
وفي العصر الحديث استعمل سلاح العقوبات الاقتصادية في الكثير من الحالات، حيث استعملته عصبة الأمم بحق إيطاليا في العام 1935 بعد غزوها إثيوبيا، لكن الحصار لم ينجح في إنهاء الاحتلال.
وخلال العقود الأربعة الأولى بعد قيام الأمم المتحدة لم تصدر قرارات من مجلس الأمن الدولي بشأن العقوبات الاقتصادية إلا في حالتي روديسيا وجنوب إفريقيا.
ولكن بعد انتهاء الحرب الباردة توسع مجلس الأمن بصورة متزايدة في فرض العقوبات الاقتصادية الجماعية، فقد فرضت عقوبات على العراق ويوغوسلافيا السابقة وعلى هايتي والصومال وليبيا وليبيريا وأنغولا ورواندا والسودان.
أمريكا رائدة سلاح العقوبات الاقتصادية
تسيطر الولايات المتحدة تقريباً على آليات القرار الأممي بتجميد الأموال أو فرض عقوبات اقتصادية، بالإضافة إلى الماكينة الأمريكية للعقوبات والتجميدات.
دفعت واشنطن بالأمم المُتحدة إلى فرض عدد من الإجراءات لمكافحة الإرهاب على أكثر من 180 دولة، تتضمّن هذه الإجراءات تجميد أصول وتقييد حركة الإرهابيين ومناصريهم.
كما يتمتع كل من رئيس الولايات المتحدة والكونغرس بسلطة إصدار عقوبات. ويسمح قانون السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية لعام 1977 للرئيس بفعل ذلك بسهولة نسبية.
وتستفيد واشنطن من وضع فريد يتيح لها فرض عقوبات وإنزال “قدر هائل من المعاناة الاقتصادية” من خلال تقييد الوصول إلى الأسواق العالمية، لأنَّ درجة عالية من التجارة العالمية تعتمد على الدولار الأمريكي.
في أعقاب تفجيرات 2001 قرر الرئيس الأمريكي توسيع نطاق العقوبات القائمة آنذاك ضد “الإرهاب”، بعقوبات تستهدف الإرهابيين الدوليين والمنظمات الإرهابية، وأخرى تستهدف الحكومات الداعمة للإرهاب.
ومن غير المعروف بدقة حجم الأموال التي جمدتها الأمم المتحدة، أو الولايات المتحدة، ولا أسلوب التعامل مع هذه الأموال في فترات الحظر، التي قد تطول إلى عقود طويلة.
على سبيل المثال، أفصحت الولايات المتحدة عن إجمالي الأموال والأصول التي تم تجميدها بسبب الأنشطة الإرهابية ورعاية الإرهاب، في عام واحد فقط، هو 2020، وهي تفوق 200 مليون دولار أمريكي، وتعود ملكيتها إلى “منظمات وجماعات إرهابية” ورعاتها.
يتصدر حزب الله اللبناني القائمة التي تضم 64 منظمة إرهابية، والأموال التي تمت مصادرتها حصلت عليها الحكومة الأمريكية، من خلال التعاملات المالية والحوالات بين تلك المنظمات وجهات أخرى، وهي تحت الرقابة الصارمة في البنوك الدولية.
سلاح العقوبات الاقتصادية استفاد من الهيمنة المتزايدة للولايات المتحدة في مجال التمويل الدولي، الذي لا يسمح بنقل الأموال حول العالم دون التفاعل مع الولايات المتحدة.
وعلى مدار العقد الماضي، بدأت الولايات المتحدة أيضاً في تنفيذ عقوبات ضد أشخاص أو كيانات، ومنع مواطنيها وشركاتها من التعامل معهم.
وفي بعض الحالات، تذهب العقوبات إلى أبعد من ذلك، بمنع الأمريكيين من التعامل مع أطراف ثالثة تشارك في أعمال تجارية مع المستهدفين بالعقوبات.
تجميد الأموال هو الأداة المفضلة للسياسة الأمريكية
أنشأت الولايات المتحدة مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، المعروف باسم OFAC، مع بدايات الحرب العالمية الثانية، بهدف حظر الأصول المالية والمعاملات التجارية لدول المحور، وهو دور لعبه أوفاك بجدارة منذ إنشائه بشكل رسمي عام 1950، وحتى الآن.
مكتب مراقبة الأصول الأجنبية Office of Foreign Assets هو وكالة استخبارات مالية وتنفيذ قانون في وزارة الخزانة في الولايات المتحدة.
ويتولى المكتب إدارة وتنفيذ العقوبات الاقتصادية والتجارية ضد الدول والأفراد والمنظمات التي تهدد المصالح الأمريكية بالداخل والخارج، بالتعاون مع الحكومات الصديقة.
أصبح سلاح تجميد الأموال والعقوبات الاقتصادية هو “الأداة المُفضلة” للولايات المتحدة، ضد شبكات تهريب المخدرات والهجمات الإلكترونية عالمياً، ووصولاً إلى محاربة “التنظيمات الإرهابية”.
لكن العقوبات الأمريكية كثيراً ما تتجاوز القواعد والشفافية، وتذهب إلى خدمة المصالح الأمريكية ضد الدول غير المطيعة.
كما أن العقوبات عامة والاقتصادية خاصة تتحول أحيانا وسائل تدخل في الشؤون الدولية لبعض الدول.
والنظرة الأولى إلى قائمة أمريكا السوداء للدول التي تتعرض لتجميد الأموال، ستظهر أسماء متوقعة، من الصين وإيران وروسيا، إلى حزب الله اللبناني وجماعات أخرى مجهولة تعادي مصالح أمريكا في أنحاء العالم.
في السطور التالية نستعرض أبرز 4 حالات تجميد أموال مارسها الغرب على دولٍ بالمَنطقة، وهي العراق وليبيا وإيران وأفغانستان.
قاموس العقوبات الاقتصادية
تستطيع الولايات المتحدة والغرب اختيار ما تراه مناسباً من القائمة التالية، لعقاب الدول والأنظمة التي لا ترضى عنها واشنطن:
التجميد
مصادرة أصول الدولة الموجودة بالخارج وتجميد حسابات مؤسسات الدولة والأفراد المتهمين بالضلوع في صناعة القرارات التي أغضبت الغرب.
القيود المالية
الاستبعاد من نظام التحويل المالي Swift لإرسال الأموال عبر العالم، ويستخدم من قبل عدة آلاف من المؤسسات المالية في أكثر من 200 دولة. تم استخدام هذه العقوبة من قبل ضد إيران في عام 2012، وفقدت طهران عائدات نفطية كبيرة وجزءاً كبيراً من التجارة الخارجية.
الاستبعاد من مقاصة الدولار
حظر المعاملات المالية التي تنطوي على استخدام الدولارات الأمريكية، وعقاب أي شركة غربية تتعامل مع شركات الدولة التي تتعرض للعقاب.
المنع من الوصول لأسواق الديون الدولية
إجراء من شأنه الحرمان من التمويل لتنمية الاقتصاد. وقد ترتفع تكلفة الاقتراض في البلاد وقد تنخفض قيمة العملة الوطنية.
من ملفات التجميد
في الشرق الأوسط
بعض ما جرى في ملفات تجميد الأموال
في العراق وليبيا وإيران وأفغانستان
العراق الذي تفرقت أمواله بين العواصم
ما زال العراق يركض في الطريق العبثي الطويل لاستعادة أموال البلاد المجمدة في الخارج.
العراق الذي شهد خلال فترة حكم صدام حسين الحصار “الأشرس والأصعب” في التاريخ الحديث، بعد واقعة غزو الكويت 1990.
فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات اقتصادية موازية، واستمر خضوع العراق لتلك العقوبات حتى العام 2010 حين أقر مجلس الأمن إلغاءها رسمياً رغم أن بعضها ألغي عملياً في الفترة التي تلت الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
أدت العقوبات إلى وفاة أكثر من مليون ونصف من العراقيين -من بينهم نحو نصف مليون طفل- وحرمت العراقيين لأزيد من عقد من الزمن الحصول على حاجاتهم من الغذاء والدواء.
يلف الغموض الأموال العراقية المجمدة في الولايات المتحدة التي تقول تقديرات غير موثقة إن رقمها يصل إلى حدود 50 مليار دولار، لكن أحداً لا يستطيع أن يؤكد تحديداً مقدارها.
وكان موضوع هذه الأموال العراقية المحتجزة، طُرح بعد الغزو، حين طلبت وزارة الخزينة الأمريكية من 17 بنكاً ومؤسسة مالية تحويل مبلغ 1.7 مليار دولار، معظمها عبارة عن أصول مجمدة أودعها أفراد أو شركات لهم علاقة بنظام صدام حسين، وتحويلها إلى البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، لتوظيفها في صندوق “إعادة بناء العراق” تحت إشراف الأمم المتحدة.
ومعظم تلك الأموال والودائع والممتلكات تعود إلى فترة غزو العراق للكويت، لكن ستضاف إليها بعد ذلك أموال أخرى دأبت السلطات الأمريكية على “مطاردتها” في جميع أنحاء العالم، وهي أموال تعود إلى سنوات “النفط مقابل الغذاء”، حيث كان نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين يبرم صفقات خارج إطار ذلك البرنامج ويودع مداخيلها بأسماء شركات أو شخصيات غير معروفة في عدة بنوك حول العالم، وذلك للالتفاف على إجراءات الحظر.
حددت وزارة الخزانة الأمريكية أسماء 16 شخصية تشمل عائلتي صدام حسين ونائبه عزة الدوري، وشركات كانت تديرها الدولة العراقية مثل “مؤسسة الدولة للسيارات”، ومؤسسة البترول المركزية، شركة العراق لناقلات النفط .
وقالت واشنطن وقتها إن أموالاً تعود إلى النظام السابق توجد في 20 دولة أخرى منها سويسرا، فرنسا، ألمانيا، روسيا، إسبانيا، مصر، تايلند، إندونيسيا، لبنان، ايران، كوريا الجنوبية، ماليزيا، اليابان، والمغرب، والسعودية، والإمارات، والأردن، وسوريا، واليمن .
وتحت ضغوط أمريكية أمكن تحديد مبلغ ملياري دولار توجد في دول أخرى وتم تجميدها بضغط أمريكي.
وقال مستشار رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في 2008 إن “الأموال العراقية ليست موجودة لدى أمريكا وإنما موجودة في حساب الأمم المتحدة تحت ما يعرف قانون النفط والغذاء”.
في ذلك الوقت كان المفاوضون الأمريكيون يستخدمون ورقة 20 مليار دولار من الأموال المجمدة للضغط على العراقيين كي يقبلوا ببنود المعاهدة الأمنية والعسكرية.
ويقول الجانب الأمريكي إنه في حال انقضاء مدة تفويض الأمم المتحدة، وبدون وجود اتفاق يحل محله، ستفقد الأموال العراقية حصانتها، وهو ما يعني خسارة العراق لنحو 20 مليار دولار.
المتحدث باسم وزارة العدل العراقية، أحمد لعيبي قال إن “العراق رفع دعاوى قضائية بحق العديد من الشركات والأشخاص خارج البلاد، لاستيلائهم على الأموال المجمدة. وهم الآن يرفضون تسليم الأموال رغم أنها تعود للدولة العراقية”.
ورغم مرور 19 عاماً على إسقاط النظام السابق على يد قوات دولية قادتها الولايات المتحدة، ورفع العقوبات عن العراق، تجاهد بغداد لمعرفة حجم تلك الأموال واستعادتها.
المفاجأة أن اللعيبي يقر بأن “العراق لا يملك إحصائية عن مقدار الأموال المجمدة وغير المجمدة الموجودة في الخارج، كون أغلب هذه الأموال مسجلة بأسماء شركات أو أشخاص منذ حقبة نظام صدام حسين”.
وهكذا الحال في معظم ملفات تجميد الأموال، وليس كل هذا سوى الفصل الأول من ملحمة تجميد أموال العراقيين، لأن كل ما سيلي يحمل عنوان “نهب أموال العراق بعد 2003 تحت غطاء إعادة الإعمار”.
ليبيا التي تبحث عن 200 مليار دولار هاربة
الأموال الليبية المجمدة تشمل أرصدة مالية تقدر بالمليارات، وسندات وودائع، بالإضافة إلى استراحات وفنادق ضخمة وأراض ويخوت وسيارات فارهة وطائرات خاصة.
كلها ملك للشعب الليبي، لكن لا يمكنه الانتفاع بها.
بل إن سلطات بلاده لا تعرف أو لا تعلن بشكل صريح ودقيق ورسمي عن حجم هذه الأموال “المنهوبة والمهربة” في الخارج.
أرصدة الدولة الليبية واستثماراتها الخارجية في شركات وبنوك أوروبية كبيرة، عبارة عن ودائع وأسهم وسندات تقدر بأكثر من 200 مليار دولار، تم تجميدها بموجب القرار 1973 الصادر في مارس/آذار 2011 عن مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على نظام القذافي.
فرحات بن قدارة كان آخر محافظ لمصرف ليبيا المركزي خلال حكم معمر القذافي من 2006، إلى 12 مارس/آذار 2011.
وفي مقابلة متلفزة قال إن الأصول الليبية تقدر بنحو 168 ملياراً و425 مليون دولار.
منها نحو 104 مليارات للمصرف المركزي، ونحو 30 مليار دولار عبارة عن سندات خزانة أمريكية، وسندات في حكومات أوروبية.
والبقية موزعة على شكل قروض لدول أجنبية، وبعض المحافظ الاستثمارية التي تدار من الغير لصالح المصرف المركزي.
ثم هناك قرابة 64 ملياراً للمؤسسة الليبية للاستثمار.
تتضمن الأموال المجمدة استثمارات تتبع صندوق الاستثمارات الليبي، المؤسسة الليبية للاستثمار حالياً، وهي شركة قابضة حكومية بمثابة صندوق الثروة السيادية لليبيا الذي تأسس عام 2006 لإدارة واستثمار فائض العوائد النفطية.
ومن أبرز الاستثمارات الليبية في الخارج استثمارات في شركات “فيات” الإيطالية لصناعة السيارات و”إيني” الإيطالية للطاقة” و”باير” الألمانية للكيماويات وبنك “يونيكريدت” الإيطالي والبنك الملكي الاسكتلندي وبنك “يوروكلير” البلجيكي و”دويتشه بنك” الألماني.
تعريف العقوبة الاقتصادية
جملة التدابير والإجراءات الاقتصادية والمالية التي تفرضها دولة أو دول أو منظمات أو هيئات دولية أو إقليمية
على دولة أو تنظيم أو شركة أو غيره
على خلفية القيام بأعمال عدوانية أو تهديد للسلم الدولي،
أو لحمل ذلك الطرف على تقديم تنازلات ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية.
يتم اللجوء إليها بعد استنفاد الخيارات السياسية المتاحة.
يعتبرها البعض نوعاً “ملطفاً” من أنواع “التدخلات العسكرية” غير المباشرة، فهي في نهاية المطاف ليست إلا نوعاً من الفرض والقسر والإكراه.
مخاطر العقوبات الاقتصادية
في السنوات الأخيرة أصبحت العقوبات، وبخاصة العقوبات التجارية الشاملة، تثير قلق المنظمات الإنسانية.
المثير للقلق هو ما يترتب على هذه العقوبات من آثار إنسانية.
تمكنت هذه المنظمات أثناء عملياتها الميدانية، من توثيق الآثار الإنسانية القاسية لبعض أنظمة العقوبات الاقتصادية.
ذلك أن العقوبات قد لا تؤثر سلبياً على الأوضاع الإنسانية لسكان الدولة المستهدفة فحسب، وإنما قد تؤثر أيضاً على تقديم المساعدة الإنسانية.
إيران التي تلعب بورقة المشروع النووي ضد التجميد
تمتلك إيران عشرات مليارات الدولارات التي تم تجميدها في عدة دول، بسبب العقوبات الأمريكية على قطاعيها المصرفي والطاقة.
فرضت الولايات المتحدة أول عقوبة على إيران في نوفمبر/تشرين الثاني 1979 بعد أن استولت مجموعة من الطلاب المتشددين على السفارة الأمريكية في طهران واتخذوا مَن فيها رهائن.
شملت العقوبات وقتها تجميد ما يقرب من 12 مليار دولار من الأصول الإيرانية، منها ودائع بنكية وذهب وعدة ممتلكات أخرى، وفرض حظر اقتصادي.
رُفعت تلك العقوبات في يناير/كانون الثاني 1981 بعد تحرير الرهائن، لكن واشنطن فرضت العقوبات الثانية في عهد الرئيس رونالد ريغان عام 1987، بدعوى تجاوزات إيرانية ضد أمريكا ودول الخليج، وامتدت تلك العقوبات في عام 1995 لتشمل المؤسسات التي تتعامل مع الحكومة الإيرانية.
فُرضت العقوبات الثالثة نهاية 2006 بناءً على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1737 بعد أن رفضت إيران وقف برنامج تخصيب اليورانيوم.
استهدفت عقوبات الولايات المتحدة في بداية الأمر استثمارات النفط والغاز والبتروكيماويات، وصادرات منتجات النفط المكرر، وصفقات العمل مع الحرس الثوري الإيراني.
وشملت قيوداً على المعاملات البنكية والتأمينات والشحن، وخدمات استضافة مواقع الويب للأغراض التجارية، وخدمات تسجيل اسم النطاق.
ليست هناك رواية واحدة يمكن الاعتماد عليها للوصول لرقم قاطع بشأن قيمة أموال إيران المجمدة في الخارج، سواء من قبل الإيرانيين أو الأمريكيين، فما بين 32 مليار دولار و120 مليار دولار تختلف التقديرات.
وقال وزير المالية الأمريكي السابق جاك ليو أمام الكونغرس إن أموال إيران المجمدة تقدر بنحو 120 مليار دولار، ولكن ما سيسمح لإيران بالتعامل معه هو 56 مليار دولار فقط.
وبحسب مركز الدراسات الإيرانية في إسطنبول، ففي عام 2015 تراوح إجمالي الأصول الإيرانية في البنوك الدولية بين 100 و120 مليار دولار، بينها نحو ملياري دولار في الولايات المتحدة، و35 ملياراً في الدول الأوروبية، ونحو 22 ملياراً في الصين.
ومع هذا لا توجد إحصاءات رسمية عن مصادر الأموال التي تم الإفراج عنها بعد الاتفاق النووي، كما لا يوجد رقم دقيق بشأن حجمها.
وأفغانستان المحرومة من أموالها ومن التعامل مع الصندوق
فرضت الولايات المتحدة عقوبات على حركة طالبان الأفغانية عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وكانت لتلك العقوبات تداعيات قاسية مع عودة الحركة إلى السلطة، حيث ما زالت واشنطن تصنفها على أنها جماعة إرهابية.
وتضمنت العقوبات قيوداً على المعاملات المالية مع الحركة وتجميد أي أصول مالية لها، بالإضافة إلى تقييد السفر الدولي لكبار الأعضاء في الحركة.
وعقب عودة طالبان للسلطة أدت هذه العقوبات إلى تجميد حسابات الحكومة الأفغانية لدى وزارة الخزانة الأمريكية، وتعليق وصول أموال إلى البلاد من صندوق النقد الدولي، وسحب تمويل البنك الدولي لمشاريع التنمية القائمة.
وبعد أيام من سيطرة حركة طالبان على البلاد صيف 2021، قال صندوق النقد الدولي إن أفغانستان لن تكون قادرة بعد الآن على الاستفادة من موارد هيئة الإقراض بسبب “عدم الوضوح داخل المجتمع الدولي” بشأن الاعتراف بحكومة في أفغانستان.
وكان من المفترض أن تصل إلى أفغانستان موارد تزيد عن 370 مليون دولار من صندوق النقد الدولي في 23 أغسطس/آب.
وبالتالي فإن هذه العقوبات تمنع وصول طالبان إلى نحو 10 مليارات دولار، وتضغط على صندوق النقد الدولي لمنع توزيع أكثر من 400 مليون دولار من احتياطيات العملة.
المزيد من تجميد الأموال العربية في المستقبل القريب
لندن تهدد بمصادرة أموال النخبة الروسية.. ليست تلك سوى مجرد بداية لسرقة لندن وواشنطن للأموال الأجنبية.
هكذا بدأ المحلل السياسي الروسي ألكسندر نازاروف مقاله الذي يحمل عنواناً مثيراً لأبناء الشرق الأوسط: هل يتضرر العرب من مصادرة الغرب لأموال أجنبية؟
يعتبر نازاروف أن الغرب يمر بأصعب أنواع نقص الموارد، والتحول إلى سياسة السحب القسري للموارد من المنافسين والوكلاء والعملاء على حد سواء.
وفي أوقات الأزمات، يتخلّى الغرب عن المبادئ الأساسية التي بُني عليها اقتصاده، ومجتمعه بشكل عام، مثل حرمة الملكية الخاصة، وسيادة القانون، كما يقول المحلل الروسي.
في عالم المال “قانون الغاب” هو الذي يحكم.
يضيف الكاتب: كذلك نذكر جميعاً نهب الغرب للأصول الليبية المجمّدة بعد عام 2011. ووفقاً لتقارير صحفية، فقد اختفى زهاء 11 مليار دولار من الحسابات الليبية في بلجيكا وحدها.
أعتقد أن معظم المستثمرين في دول ثالثة، بمن فيهم من الدول العربية، ما زالوا يأملون في أن يقتصر الغرب على سرقة خصومه السياسيين، وفي مقدمتهم روسيا والصين، بينما ستظل رؤوس أموالهم في الحفظ والصون.
لكن عندما يصل الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين إلى مراحله الحادة، وهو ما يتطور أمام أعيننا فعلياً الآن، فلن تتمكن أي دول ثالثة من الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع طرفي الصراع في آن واحد. بل ستجبر الولايات المتحدة كل من لا يستطيع المقاومة على المشاركة في الحرب الاقتصادية.
على سبيل المثال، وفي إطار المواجهة مع روسيا، يرى نازاروف أن الولايات المتحدة تريد الآن تزويد أوروبا بالغاز على حساب قطر وبخسارة، “أنا متأكد أن ضغوطاً مماثلةً تمارس كذلك على دول أخرى في الخليج”.
ويتوقع الكاتب في السنوات القليلة المقبلة أن تواجه الدول العربية، مثل دول أخرى في أنحاء العالم، خياراً بين المشاركة في حرب أمريكية، وهو ما يعني غالباً زعزعة استقرارها الداخلي، وعقوبات أمريكية ضدها.
وسيحاول كثيرون المقاومة، لأن ثورة الشعوب بالنسبة لهم أفظع من غضب واشنطن.
ويعتقد نازاروف أن مصادرة الأصول العربية ستكون من بين الإجراءات التي سوف يستخدمها الغرب لإجبار العرب على وقف التعاون مع الصين وروسيا.
لطالما اعتبرت دول الخليج الغنية الصين شريكاً اقتصادياً رئيسياً، وعلى الأرجح أنها ستفضل المخاطرة ورفض التعاون مع بكين، على أمل أن تكون هناك احتياطيات كافية في الفترة الأولى، ثم تتدبر الأمور بشكل أو بآخر.
لهذه الأسباب قد تفشل سياسات تجميد الأموال
تلجأ الدول التي تصدر في حقها عقوبات بتجميد الأموال إلى أكثر من طريقة لتقليل آثارها السلبية:
1- الالتفاف: إنشاء شبكة من الشركات الوهمية والوسطاء في الخارج، والتنكر، واستخدام أسماء جهات أخرى، واستغلال الثغرات، وفتح حسابات مصرفية مجهولة أو مزيفة للوصول إلى الأسواق الدولية.
على سبيل المثال تكونت خلال الحرب السورية شبكات غير قانونيّة للتهريب، لتأمين السلع والخدمات من البلدان المجاورة، خصوصاً لبنان، ومناطق في الداخل السوري.
في دول أخرى أنشأ بعضُ المنتفِعين “شركات ظل” وحسابات في دول مختلفة، فيما اعتمد نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين على العشائر السنية لتهريب النفط والسلع الأخرى إلى البلاد.
2- البدائل التجارية: عند إغلاق سوق ما عبر العقوبات تقوم الدول المستهدفة بتحويل تركيزها الاقتصادي نحو أسواق أخرى، باستغلال الخلافات بين الدول. لذلك تواجه العقوبات أحادية الجانب – حتى عندما يفرضها أكبر اقتصاد في العالم – تحديات أكثر صعوبة في ظل اقتصاد دولي يزداد تكاملاً.
3- نزع المشروعية: تسعى بعض الدول لنزع المشروعية عن العقوبات للحد من فاعليتها، سواء بالدفع بمخالفتها للقانون الدولي، أو بالدفع بكونها عقوبات منحازة وغير موضوعية.
إذا كان من اليسير نسبياً إقرار عقوبات رداً على عدوان أو إبادة جماعية، فإن هناك معايير أخلاقية مثل حقوق الإنسان والحكم الديمقراطي قد لا يكون من السهل تحقيق توافق عليها أو على انتهاك السلوك السياسي للحكومة المستهدَفة فعلًا لها، خاصة في ظل وجود معايير مختلفة لدى بعض الدول عن المعايير الغربية المعروفة.
وفي هذا الإطار تحاول الدول المعاقَبة وصف العقوبات بأنها تدخلات خارجية لفرض معايير مغايرة.
والآن حان الوقت لمراجعة هذه العقوبة “سيئة السمعة”
توجد عشرات الأسباب الشكلية التي تسوقها دولة ما لتجميد أموال دولة أخرى، ربما لا يكون من بينها السبب الحقيقي.
قرارات التجميد غالباً ما تصدر عن العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، وتضرب أهدافاً في قارات العالم الخمس.
ونصيب الدول العربية والإسلامية كبير، كما أن قطاعاً كبيراً من المنظمات المتهمة بالإرهاب تقع ضمن منطقة رمادية، يرى فيها البعض سمات “المقاومة” والنضال ضد هيمنة الغرب.
لا توجد معايير صارمة أظهرها الغرب في قرارات التجميد.
لا توجد إحصائيات دقيقة عما تمت مصادرته من أموال العرب والمسلمين باسم التجميد والعقاب.
والأخطر من كل هذا أن الطريق إلى استعادة هذه الأموال “مسدود مسدود”، لأسباب يحرص الغرب على بقائها.
فلا توجد معايير واضحة تؤكد دقة الاتهام ومدى خطورته.
ولا يتحدث أحد عن مصير الأموال خلال فترات التجميد التي قد تستمر عقوداً، وهل يتم استثمارها، وماذا عن فوائدها في حالة استعادتها؟
المصير المعلق لمليارات الدولارات التي نقلها حكام سابقون لإيران وإثيوبيا والفلبين وتونس ومصر ودول إفريقية كثيرة إلى الغرب يدل على صعوبة رفع الحظر عن هذه الأموال واستعادتها.
هناك إصلاحات جذرية ضرورية لنظام العقوبات التي تفرضها واشنطن، أو تلك التي تفرضها دول حليفة لواشنطن، أو منظمات دولية تستولي واشنطن على قرارها السياسي.
من الناحية العملية، نادراً ما حققت العقوبات الأمريكية أهدافها السياسية المُعلَنَة.
وواشنطن ليس لديها إطار واضح لتقييم فاعلية العقوبات وما إذا كانت أهداف السياسة الخارجية قد تحققت أم لا.
كما أن واشنطن لا تمتلك آلية لمتابعة تنفيذ الوعد بتخفيف العقوبات إذا كان المُستهدَفون بالعقوبات قد غيروا سلوكهم بالفعل.
العقوبات الأمريكية في بعض الدول، من بينها العراق وإيران وفنزويلا، أدت إلى تفاقم الأزمات الإنسانية من خلال عزل المدنيين عن الأنشطة الاقتصادية الحيوية، كما وثقت جماعات حقوق الإنسان.
أبرز توابع العقوبات مثلاً هو نقص في السلع الأساسية مثل الأدوية.
وكان بعض الديمقراطيين في الكونغرس يضغطون من أجل سن تشريع لضمان وجود استثناءات إنسانية لإيران أثناء الوباء.
لكن المصالح السياسية والاقتصادية تأتي قبل الإنسان، وغذائه، ودوائه، وفي أحيان كثيرة قبل حياته نفسها.