موريتانيا أمام حرب الخليج الجديدة: التحديات وخيارات الاستباق بقلم: محمد لحظانه المستشار الفني لوزير التجهيز والنقل مكلف بالنقل الجوي

في ظل اندلاع حرب مفتوحة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الإسرائيلي، وتزايد المؤشرات على احتمال تدخل أمريكي مباشر إلى جانب إسرائيل، تتجه المنطقة نحو تصعيد متسارع يُنذر بتحول النزاع إلى مواجهة إقليمية شاملة. هذا التدخل الأمريكي المحتمل، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع كاصطفاف صريح مع الكيان المحتل، يضيف بُعدًا خطيرًا إلى الصراع، ويُرجّح تداعيات واسعة على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم. فالعالم، بحكم تشابك مصالحه، لم يعد بمنأى عن ارتدادات الأزمات الكبرى، وموريتانيا بدورها ليست استثناءً رغم بعدها الجغرافي.

إن أي تصعيد عسكري واسع النطاق ضد إيران من شأنه أن يُربك الأسواق الدولية، ويرفع أسعار الطاقة، ويهدد سلاسل الإمداد، ويؤدي إلى تحولات سياسية واقتصادية تطال الدول الهشة أكثر من غيرها. ففي ظل عالم مترابط، قد يدفع بلد مثل موريتانيا – الذي يعتمد بدرجة كبيرة على الواردات، ويواجه تحديات تنموية مركّبة – ثمنًا اقتصاديًا باهظًا، حتى دون أن يكون طرفًا في النزاع. وفي بلد يعاني من عجز مزمن في الميزان التجاري وضعف في الإنتاج المحلي، فإن تداعيات أي أزمة طاقوية عالمية ستكون مباشرة على معيشة المواطنين. ومما يزيد من خطورة الظرف أن هذه الحرب المحتملة تأتي في وقت لا تزال فيه المنطقة الساحلية بأكملها، من الساحل إلى المغرب العربي، تعاني من آثار متراكمة لجائحة كورونا، والاختلالات المناخية، وتراجع الدعم الدولي، وتنامي الحساسيات الأمنية.

في مثل هذه السياقات، تتعاظم الحاجة إلى إجراءات وطنية استباقية، لا من باب التهويل، بل من منطلق المسؤولية والحرص على تحصين المكتسبات. وهنا، تبرز ثلاثة مسارات يتوجب على الدولة أن تتحرك فيها بتوازن وتزامن:

أولًا، تعزيز الثقة بين المواطن والدولة، من خلال تكريس الشفافية في الخطاب العمومي، وتفعيل الحوار السياسي والاجتماعي، حمايةً للجبهة الداخلية من أي استغلال قد تُمارسه بعض الأطراف في لحظات التوتر.

ثانيًا، التعاطي مع المرحلة المقبلة بعقلانية مالية، عبر مراجعة الأولويات، وتوجيه الإنفاق إلى ما هو ضروري وذو مردودية عالية، وتكريس الشفافية والرقابة في تسيير الموارد العامة. ففي سياق كهذا، لا يكون الهدر مجرد خلل إداري، بل تهديدًا مباشرًا لقدرة الدولة على الصمود والاستمرار.

ثالثًا، تسريع تنفيذ المشاريع ذات التمويل الخارجي أو الداخلي، لما لذلك من أثر في تحفيز النشاط الاقتصادي، وضمان وصول الخدمات والبنى التحتية إلى المواطنين في وقت حساس. ويتطلب ذلك إزالة العراقيل البيروقراطية، وتعزيز التنسيق، وتفعيل آليات المتابعة الجادة والفعالة.

وما يعزز من فرص النجاح في هذا الظرف الدولي المعقّد، أن برنامج فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني قائم في جوهره على رؤية استباقية، تُراكم عناصر الصمود، وتضع الاستقرار والعدالة الاجتماعية في صلب المشروع الوطني. ويكفي التذكير، في هذا السياق، بما تحقق من مكاسب في السنوات الأخيرة، كتوسيع الحماية الاجتماعية، وزيادة الإنفاق على القطاعات الإنتاجية، وتحسين مناخ الشفافية، لتتضح ملامح هذا النهج الاستباقي. هذا الطابع الذي ميّز توجه الدولة منذ 2019، قد يكون عامل توازن مهمًا في التخفيف من انعكاسات هذه الحرب المحتملة، شريطة أن يواكبه عمل حكومي جاد، وسريع، يترجم الإرادة السياسية إلى إجراءات ملموسة على أرض الواقع.

وفي هذا الإطار، يبقى الجهاز التنفيذي، بمختلف مستوياته، هو المعني الأول بترجمة التوجهات الكبرى إلى قرارات حازمة وإجراءات فعالة. فالمرحلة تقتضي اجتهادًا مضاعفًا، وتنسيقًا أعلى، وقدرة على التحرّك خارج الأطر الروتينية. وليس من المبالغة القول إن امتعاض فخامة الرئيس من وتيرة الإنجاز خلال المأمورية الأولى يجب أن يتحوّل إلى محفّز عملي لإرساء ثقافة أداء جديدة في المأمورية الثانية، تُغلّب الفاعلية على البروتوكول، والمبادرة على الانتظار. خاصةً في ظل ما يشهده العالم من تطورات متسارعة قد تفرض على الدول محدودة الموارد خيارات صعبة إن لم تستعد جيدًا.

وفيما تتحمل الدولة العبء الأكبر في التصدي للتحديات، فإن دور الفاعلين الاقتصاديين لا يقل أهمية في مرحلة تتطلب تعبئة شاملة. وفي هذا السياق، تمثل الظرفية الحالية فرصة لاختبار جدية القطاع الخاص في مواكبة الدولة، ليس فقط كشريك اقتصادي، بل كفاعل وطني يتحمل مسؤولياته الاجتماعية والتنموية. لقد آن الأوان ليتجاوز دور القطاع الخاص حدود الدعم الموسمي أثناء الاستحقاقات الانتخابية، إلى حضور مستدام يترجم وعيًا وطنيًا حقيقيًا، وانخراطًا فاعلًا في معركة البناء. ويتطلب ذلك خلق مناخ ثقة مستدام، وتحفيز الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، خاصة الزراعة، والتحويل الغذائي، والطاقة، مع الحفاظ على استقرار الأسعار وجودة السلع في الأسواق، وتعزيز آليات الرقابة، وضمان تنافسية منصفة تكبح المضاربات وتضمن الجودة. فالمسؤولية الاقتصادية اليوم لم تعد مجرّد التزام تجاري، بل مساهمة في الأمن المجتمعي والاستقرار الوطني. ويستدعي ذلك أيضًا من السلطات تيسير الولوج إلى التمويلات، وتوفير مناخ ضريبي عادل، ومرافق تنظيمية تحفّز الاستثمار المنتج. فكلما كان القطاع الخاص فاعلًا أكثر، كانت قدرة الاقتصاد الوطني على امتصاص الصدمات أكبر.

وفي هذا المنعطف الدقيق، لا تقل أهمية المناخ السياسي والاجتماعي عن التوازنات الاقتصادية. فحين تتعاظم التحديات الخارجية، تبرز الحاجة إلى جبهة داخلية متماسكة، تتسامى على الخلافات الثانوية، وتترفّع عن دعوات التشويش والمزايدات. ومثلما تقتضي الظرفية الترفع عن الخطاب التوتيري أو الشخصي، فإنها تستدعي كذلك الكف عن الزج بالحديث عن استحقاقات انتخابية سابقة لأوانها، في وقت تتطلب فيه المرحلة تركيزًا وطنيًا جامعًا، وانشغالًا بالأساسيات بدل الانشغال بالمواقيت. فالإصلاح حين يكون جادًّا، لا يحتمل التلهي بالافتراضات، بل يقتضي تركيزًا صافيًا، وروحًا مسؤولة.

إن الأزمات الدولية ليست مناسبة لليأس أو الجمود، بل هي لحظات فارقة لاختبار صلابة الدول، وصدق إرادتها في الإصلاح، ونجاعة مؤسساتها. وموريتانيا، وهي تطرق أبواب التحول في ظرف إقليمي ودولي حساس، مطالبة بأن تُجسّد هذا الوعي في السياسات والقرارات، لا بالشعارات العابرة، بل بالفعل المنهجي القائم على التبصّر، والمشاركة، والحكمة. فهل نمتلك الشجاعة السياسية والبُعد الاستراتيجي لترجمة هذا الوعي إلى قرارات؟
أعتقد أن الإجابة لا تُصاغ بالتصريحات ولا بالشعارات، بل تُبنى بالإرادة، وتُختبر بالفعل. ففي كل أزمة تُولد فرصة، وفي كل تحدٍ تكمن لحظة صدقٍ مع الذات. ومتى ما اجتمع الإدراك بالمبادرة، كانت الأمة أقدر على صنع مصيرها.
هكذا نفهم القيادة… وهكذا يُصنع الأمل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى