لم يكن أحد يتصور يوما أن يصل وضع المدرسين في بلادنا إلى هذه الدرجة من التردي و في وقت قياسي ، و حين أعيى النقابات المهنية و نشطاء المدرسين الحاملين لهمهم أن يجتمع عشرة منهم على ما يصلح شأنهم ، و يرد لهم الإعتبار و يتدارك القليل الباقي من كرامتهم التي يدوسها العسكري البسيط و عامل الغابات و البواب و مدير الشركة ، فضلا عن الوالي و الحاكم و كبير الجند ، حيث عند هؤلاء جميعا لا يساوي المدرس شيئا مذكورا و أصبح اسمه عند الذاكرين “أكريراي”.
في غمضة عين يتواجد هؤلاء في اللحظة غير المناسبة ، بأمر من رؤسائهم في القطاع ، من مروجي إنجازات الوهم في سوق النخاسة السياسية لتثمين سراب ، حاولوا إقناع المدرسين أنه الحل النهائي لمشكل سكنهم ليلقنوا الكبير منهم قبل الصغير دروسا في النفاق السياسي و المحاباة و التجرد المطلق من أدنى درجات الكبرياء و النخوة و هم الأكثر غنى عن ذلك و لهم من الهموم و المشاكل ما يشغلهم عن إهدار ذلك الوقت و الخروج بذلك المظهر المشين .
إنه لمن المؤسف حقا أن يساق من يعهد إليهم بتعليم الأجيال كل الفضائل بهذا الشكل المهين ، فيسمحون لأنفسهم بلعب ذلك الدور المسرحي السيئ الإعداد و الإخراج .
كم نظم المدرسون قبل اليوم من الوقفات السلمية بساحة الحرية و أمام وزارة التهذيب ، طلبا لحقوق مشروعة ، فكانت الشرطة لهم بالمرصاد ، و قمعتهم بوحشية و نكلت بهم أشد تنكيل ، و ما حادثة الصفع و السحل لقادة نقابيين منا ببعيد !؟
و كم هو مكشوف و فج اسلوب الإمعان في الإحتقار و الإذلال الذي تتعامل به السلطات مع المدرسين ، حين كان في استقبال وقفتهم اليوم – و هذا طبيعي – من كان وراء تحضيرها : ( ديوان الرئاسةو مستشاروها)؟
تصور معي لو تنادى المدرسون بهذا الحجم للمطالبة بحقوقهم المهنية و المادية و المعنوية المهدورة .
تصور معي لو اجتمعوا بهذه القوة و التوحد من أجل فرض تحسين نوعية التعليم و رفع الأجور و تنفيذ نظام الأسلاك .
تصور معي لو كان هذا الاجتماع من أجل تدارس النتائج المخجلة ، التي تحققت في الامتحانات الوطنية من أول سنوات الإصلاح المزعوم إلى فجر إطلاق المدرسة الجمهورية.
أيها المدرسون ، ألا أترون معي أنه و إن تحقق فعلا ما ارغمتم على الإشادة به و تثمينه كمنجز : (صندوق سكن المدرسين) ، لا يعدو كونه مجرد إنصاف لكم بتسوية وضعية ظلت على رأس مطالبكم ، و تعتبر حقا مشروعا أنتم آخر من تم التفكير في إسدائه إليه ، و بشروط مجحفة تسلبه قيمته ليس أقلها الإقتطاع من رواتبكم و لا تحويلكم إلى أبواق دعاية و ذراع إعلامية للنظام ، بعد فشل إعلام حزبه في الترويج لمنجزاته الوهمية ؟
ألم يحصل قبلكم القضاة و كتاب الضبط ، و النواب و الولاة و الضباط السامون و و و …. على القطع الأرضية عالية القيمة ، و في أرقى أحياء العاصمة و لم يدفع أي من هؤلاء اوقية مقابل ذلك ، بل تم الحديث عن منح بعضهم مبالغ معتبرة لتشييد منازل لائقة !؟
ألم يكن هؤلاء أجدر بالتصفيق و التطبيل و التثمين و التسبيح بحمد من وهبهم و آثرهم عليكم ؟
إن المهمة الموكلة لكم أيها المدرسون ، هي أن تقوموا بالعمل التدريسي على الوجه الأكمل و بكل إخلاص و تفان ، و مقابل ذلك تتقاضون راتبا زهيدا لا مِنَّةَ لرئيس أو غيره فيه عليكم ، فهو مدفوع من ضرائب يؤديها الجزار و الغسال و بائعة الكسكس و النعناع و المساويك و غيرهم.
يجب على المدرس تلبية رغبة رؤسائه فيما يخدم العملية التربوية و طبقا للقوانين و النصوص التي تنظم ذلك ، أما أن يطمع هؤلاء في إملاء آراء و مواقف سياسية عليه ، فذلك هو أبشع مظاهر الإهانة و الاحتقار ، فلكل واحد حزبه الذي يريد و تياره السياسي الذي يرغب و مذهبه الفكري الذي يروم.
أنتم صفوة المجتمع و أنتم النخبة لما تسلحتم به من علم و ثقافة ، و لما حباكم الله به من وعي و نضج ، فكيف تنهارون إلى هذا الحد ، و كيف ترضخون لأساليب الابتزاز و الترغيب و الترهيب ؟
انتم وحدكم من يستطيع قبض راتبه و التمتع بحريته و التمكن من كرامته و الجلوس بعيدا عن أوكار التصفيق و التمجيد و الكذب على الشعب.
أيها المدرسون أتطمعون مقابل موقفكم هذا أن تظفروا بإذن للصيد ، برخص للتنقيب ، بقطع أرضية في (الصكوك او تفرغ زينه) بمقاولات ، بتوظيف أبناء أو زوجات ، بأي امتيازات أخرى.؟
قطعا لا ، فكيف لا تحرصون على ربحكم و رصيدكم الوحيد : (الكرامة و الإباء ) !؟
ماذا قدم هذا النظام للمدرسين حتى ينفضوا إليه بعد أن تحول التعليم إلى مدارس خاصة ، و أخرى عسكرية و ثالثة تمييزية ، لا يرتادها غير أبناء الحاكمين و الأغنياء ، ثم انتقل التعليم العام الذي هو مكان أبنائكم من الكارثة إلى المأساة ؟
إنها لمفارقة عجيبة فقد ، كان يفترض أن يقود المدرسون المجتمع إلى حيث يختارون ، فيفرضون الإصلاح و يسهمون في توجيه قطار البلاد و تثبيته على السكة ، بدل أن يصبحوا دمى تافهة في أيدي رسل نظام ، سلطهم عليهم من عَبَدَةِ المنفعة و سَدَنَةِ المخزن ، لا يملكون من رؤية و لا برنامج سوي مايمكنهم من خداع الحاكم و المحكوم على حد سواء .
كم أنا مقتنع – و ليسمح لي المدرسون- أنه لا يمكن أن يتم التعامل مع عمال النظافة و أصحاب العربات و رعاة الغنم و ماسحي الأحذية و غيرهم من الفئات التي لم تتح لها فرصة التعلم بنفس الأسلوب الذي اقتيد به قدوتنا معشر المدرسين !!!
هل يمكنكم بعد هذا اليوم المشؤوم ، أن تقدموا دروسا لأطفال أمتكم في التربية المدنية ، و في قيم المواطنة و حول امتثال الصدق و التحلي بالشجاعة و نبذ النفاق و الجبن و الكذب؟
صحيح أن أكثرية الحاضرين لهذا الحشد غير موالية للنظام ، و غير جادة فيما تعلن ، غير أن ذلك لا يليق بمنزلة المربين و رسل العلم و الحق فهم ، مصدر الإلهام بكل الخصال و المزايا الفاضلة و هم المصباح الذي ينير الطريق للجميع.
النهاه ولد أحمدو
22442289