في بلدي …!/الحسن ولد محمد الشيخ

         في بلدي …!

  أسافر في متاهات الخيال .. أعاتب الأيام البيض على شحها و الليالي السود على تقريعها و طغيانها .. أنفذ إلى الذاكرة  دون استئذان .. أحط رحال التجلد و التجدد في قلوب المغيبين الصادقين المتصالحين مع الفطرة .. هناك ارفع راياتي العذراء بلون الأمل مستجديا بقرات سمان مرت من هنا أيام قوافل الملح .. فقد ضاعت نوق ديلول في معمعة التشكل و التشظي  .. و صارت  الحكمة حكاية بسيطة من حكايات الغابرين و العابرين .. و كسرت الأحداث حرث محمود قبل أن تنضج السنابل بعهدين .

  أنثر  شعرا ليس مقفى و نثرا غير مسجوع  في بلدي المكتظ بالتناقضات .. و المكتظ بالفقراء و المساكين و الغارمين و الرقاب .. بالظلمة و اللصوص و السياسيين
و باعة الوهم .

في بلدي لا أكاد أميز بين الشعراء و المجانين .. بين البلهاء و المثقفين لفرط ما تلوكه الألسن من لغو و حشو و فحش …

* في بلدي تزخر الطبيعة بالموارد و يرزح الشعب تحت خط الفقر بسبب الإهمال و التفريط .. لايزال قادة الرأي فيه منشغلين باجترار النصوص و تشجيع النكوص و الانقلاب على المبادئ و الأخلاق إلا من رحم ربك .

  * في بلدي :

-صياد عاد لتوه من البحر حاملا الخيبة، بعد أن عاثت الحيتان البشرية الرسمية بكل الصيد؛ فأسلم نفسه للسباحة في الفراغ .

-و جزار يبيع على قارعة الطريق بقايا عظام جردتها أيادي الزمان من كل لحم يصلح للشواء؛ و أذاب الحرمان كل شحم كان يستطيع أن يباهي به أمام الجيران .

-و حداد انطفأ موقد كيره مثلما انطفأ قلبه تماما؛ فاتكأ على سندان الماضي يرقب أفول الحرفة في الأفق من بعيد .

-و نجار ضاع مجرده بين أكوام النشار و الغبار في بحث أبدي عن الدرهم و الدينار .. عن لقمة عيش يوفرها لأهل الحظوة في الدار .

-و سائق تاكسي يظل يومه في حرب مصيرية من أجل إثبات الوجود .. يشاكس ولا يماكس .. يمر بواقع مر .. في مركب متهالك يأخذ منه أكثر مما يعطي .

-و حمال سلع خارت قواه، و وهن عظمه و اشتعل منه الرأس شيبا .. لا يملك تأمينا صحيا و لا أمنا غذائيا و لا مأوى يحتضن رفاته او يمتص بعض تأوهاته .

-و اسكافي يسير حافي القدمين نحو مستقبل متمنع .. يتخذ من الغراء مسكرا للأحزان .. و مخدرا للأحلام .

-و فاكهاني يغمض عينيه كلما أراد أن يبتاع أو يبيع .. لم يشرب عصيرا طبيعيا في حياته ؛ فالسلعة لا تحتمل !

*في بلدي :

 -تاجر أتخمته الصفقات و أغرته البيوع على الضلوع في الغش و التدليس و التطفيف .

-و موظف سام يتباهى كل صباح بربطة عنق انكليزية و بذلة إيطالية .. يبتسم في وجه المقاول و يتجهم في وجه المعاود من أصحاب الحق و الحقيقة .

* في بلدي حكومات ظلت منذ عقود تغتسل كل أسبوع بدموع التماسيح؛ فتفوح منها روائح الزبونية و المحسوبية في جل المقررات و المراسيم و الاتفاقيات .

حكومات آن لها أن ترتدي ثوب العزة و الكرامة و تتعطر بالقيم و الأخلاق .. و تحقق العدالة الاجتماعية و تصنع تنمية اقتصادية تنهض ببلدي المنهك حد الهزال و المثخن بجراح الفساد حتى الأخمص .

الحسن ولد محمد الشيخ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى