المقاومة الثقافية بشهادة الفرنسيين

يعتبر عيد الاستقلال الوطني المجيد، الموافق 28 من نوفمبر عام 1960 يوما مشهودا تحررت فيه بلادنا من نير الاحتلال الأجنبي، فنالت فيه حريتها وانتزعت قرارها، من قوى الشر الاستعلائية التي انتهجت الظلم والاستعباد، ونهبت الثروة وطمست الثقافة، وحولت سكان البلاد إلى بضاعة تباع وتشترى فيما عرف بتجارة الرقيق.

فمن المعلوم أن الفرنسيين لم يشيدوا في موريتانيا أي مؤسسة مدنية أو بنى تحتية، ولم يتركوا فيها مستشفى ولا مدرسة ولا جامعة ولا مطارا، ولم يبنوا فيها إلا ما تقتضيه مصلحتهم الخاصة مثل المكاتب الإدارية، والموانئ البحرية والسكك الحديدية التي يُهربون عن طريقها ما ينهبون من ثروة البلاد، وهو ما اضطر الموريتانيين إلى مقاومتهم عسكريا وثقافيا:

1 المقاومة العسكرية استمرت من عام 1905 إلى 1934 حيث تجسدت في معارك طاحنة، كبد فيها المجاهدون الموريتانيون الغزاة خسائر بشرية ومادية فادحة في عدة مناطق من الوطن، أسفر بعضها عن مقتل الحاكم الفرنسي كبولاني، بقيادة مختلف أمراء البلاد مثل بكار ولد اسويد أحمد، وسيد أحمد ولد عيده، والشيخ ماء العينين ولد محمد فاضل، وسيدي ولد مولاي الزين.

وقد بلغت هذه المعارك 135 معركة استشهد فيها 1400 شهيدا، هذا ممن عرفت أسماؤهم فقط.

2 المقاومة الثقافية: وقد تجسدت في مقاطعة السكان للمدارس الفرنسية وتشبثهم بالمحاظر والتعليم الأصلي، وقد كانت هذه الأخيرة أشد وقعا على الإدارة الفرنسية التي اعترفت بذلك، حين لم تجد من يتجاوب معها، حتى اضطرت إلى فرض الدراسة على أبناء شيوخ القبائل، لتنصاع معهم بقية القبيلة، ولكنها أخفقت في تلك الحيلة أيضا.

وقد حمل لواء المقاومة الثقافية علماء أجلاء من جميع فئات الشعب وأعراقه وعلى رأسهم العلامة محمد الخضر ولد مايابى الذي كان المرشد الروحي والعلمي للمجاهدين مسطرين بذلك تاريخا تليدا ومجدا شريفا.

يقول كزافيي كوبولاني في تقرير له موجه للحكومة الفرنسية: (إن البيظان لديهم مستوى ثقافي وفكري وأخلاقي يفوق ما هو عليه لدى رعايانا في إفريقيا الشمالية، وأنهم متعلقون بدينهم وبشيمهم النقية وعاداتهم البدائية، وإن وضعهم الاجتماعي يكشف عن حضارة أرفع من حضارة أسلافنا في القرون الوسطى).

يقول رئيس مصلحة التعليم الابتدائي “شيقنوا” يصف لإدارته سبب إخفاق المدرسة الفرنسية في تقرير له سنة 1934 (إن البيظان المسلمين منذ قرون كان لهم وما زال علماء وفقهاء وأدباء معروفون في جميع البلاد الناطقة بالعربية، ونحن نتفهم غيرتهم على ماضيهم، فهم لا ينظرون إلى حضارتنا بحماس، إن الثقة منعدمة بيننا الآن).

ويقول الحاكم الفرنسي “ليغرت”: (لقد عالجنا مشكلة التعليم فور دخولنا موريتانيا، ولكنها مشكلة حادة، لقد وجدنا أنفسنا في مستعمرات أخرى في ساحة فارغة أمام شعوب متلهفة إلى محاكاتنا، أما موريتانيا فإن المقاومة التي ينمو نفوذها عن طريق التعليم المحظري بدت مقاومة صلبة).

ويقر مفتش فرنسي سنة 1950 بخيبة أمله في استعداد السكان لقبول المدرسة الاستعمارية قائلا: (إن البيظان يخيبون الأمل، ولا يمكن في الوقت الحاضر الاعتماد عليهم، حيث استعصى علينا تطويعهم لاكتتاب التلاميذ، ولا بد من دعاية ذكية، ولكن ضغط الإدارة ما زال ضروريا).

وبينما كان الفرنسيون يطوون أمتعتهم مستعدين للرحيل لخص أحدهم نتيجة نصف قرن من المدرسة المحظرية قائلا: (إن التعليم التقليدي راسخ الجذور، وهو ينال دعم جميع السكان، وإن إجراءات دمجه في المدرسة الفرنسية من خلال مواد عربية لم تنل رضا السكان).

وفي هذا ذات المجال يقول الحاكم الفرنسي في تقرير له: (لقد تم إلغاء الدروس لعدم وجود تلاميذ، نظرا إلى أن السكان مجمعون على حرمة تعلم لغتنا).

ويقول الضابط الفرنسي افرير جاه في مذكراته: (لقد ترسخ في عقلية هؤلاء النبلاء – يقصد البيظان – عنصرا لن يتسنى لنا القضاء عليه أبدا، ولو بإغراء المصلحة، إنه اعتزازهم بحقوقهم وأصلهم ودينهم).

وقد ارتكزت السياسية الاستعمارية على أربع مرتكزات:

1 تجنيس الأجانب من الجارتين (السنغال ومالي) حيث يقول الباحث الداه ولد الحسين سعت فرنسا منذ البواكير الأولى لغزوها لبلادنا إلى جلب عدد كبير من العسكريين والمهنيين والمدرسين، وظل هذا التجنيس يتضاعف في العقود اللاحقة، وهو ما أدى إلى تغيير البنية الاجتماعية للسكان، ناهيك عن أعبائه التي أثقلت كاهل الاقتصاد الوطني ومراكز التوظيف مع ما سببه من عراقيل ودعاوى واهية أدت للحيلولة دون إصلاح التعليم، وما نجم عن ذلك من حدوث اضطرابات عرقية، ظلت عائقا أمام تحقيق الوحدة الوطنية والانسجام بين مكونات الشعب.

2 كانت الإدارة الاستعمارية – كما يقول الكاتب محمد فال ولد عبد اللطيف – ترى أن الرئيس التقليدي المثالي: يجب أن يكون قابلا بدخول أولاده المدرسة الفرنسية، وأن يكون قد زار مدينة دكار، ولا يتأخرُ شيء من الجبايات المكلف بتحصيلها، ولا يضرُه حرصه على الامتيازات كالأوسمة والمدافع ومذكرات التهنئة من لدن السلطة الفرنسية، ولا يقدح فيه أن ينتمي إلى إحدى الطرق الصوفية التي تنهى عن الفوضى وتنوه بالحضور الفرنسي ودوره في تحقيق السلم والنمو الاقتصادي، ولا يضره الجهل ولا الفقر، إن توفرت فيه هذه الشروط.

3 يتحدث النقيب الفرنسي “غاستون دوفور” في كتابه (تاريخ العمليات العسكرية في موريتانيا) عن السياسة الفرنسية التي تقضي بضرورة تفوق المُجندين الزنوج داخل جيش المستعمر – على المجندين البيظان في العدة والعتاد، بحُجة أن السود أكثر ولاءً لفرنسا من البيظان، ملمِحا إلى أن الفرنسيين شرعوا بعد احتلالهم للسودان (السنغال ومالي) في زرع العداوة والبغضاء في قلوب الزنوج ضد إخوتهم الموريتانيين من أجل قطع العلاقة بينهم، كما بذلوا جهودا مضنية في البحث عنهم داخل أرض البيظان لتجنيدهم والاستعانة بهم على احتلال موريتانيا.

4 تركيز الإدارة الاستعمارية وكتابها على الترويج لما كتبه ابن خلدون من تحاليل اجتماعية في مقدمته المليئة بعيب العرب والتعريض بهم، والمسِّ من كرامتهم، فوجدت فيها ضالتها المنشودة، فجعلت من الحبَّة قبة، ثم طفق أذناب المُحتل من أدعياء الثقافة والتاريخ يكرِّسون هذه الدعوى ويؤكدونها؟!

سيدي ولد أحمد مولود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى