الأنساب الموريتانية، والثقافة الاستعمارية/ سيدي ولد أحمد مولود

لا يستهويني الخوض في علم الأنساب، ولا قيمة له عندي، فقد قيل (إن علمه لا يَنفع وجهله لا يضُر) لكني سأتحدث عنه من باب تعريَّة السياسة الاستعمارية الخبيثة التي تحكُم عقلية الدول الغربية.

فقد كنت – وما زلت – أتعجب من إصرار المؤرخين المتأثرين بالثقافة لفرانكفونية على القول بانتماء قبائل صنهاجة لعنصر البربر، متجاهلين ما أجمع عليه مَن يُعتد به من نسابة العرب قديما وحديثا من أن (صنهاجة واكتامة، حاميتان تركهما تبَّع إفريقش ابن صَيفي بعد فتحه لإفريقيا وقتله ملكها جرجير).

وقد أوصل المؤرخ الموريتاني محمد الاغاثة ولد الشيخ، صاحب كتاب (قواطع البراهين على حميرية قادة المرابطين) عدَدَ النسابة الذين جزموا بحميرية صنهاجة إلى أكثر من خمسين، وذلك بنقل كلامهم وذكر أسمائهم وأسماء مصنفاتهم وتاريخ طبعها ونشرها، مُحدِّدا للمُجلد والجزء والصفحة.

ولم يشذ عن هذا الاجماع المذكور آنفا، إلا بن حزم، الذي تعلق بشبهتين: أولهما روايته عن مجهول حال، هو يوسف الوراق، والثانية حكايته عن مُبهم مدلول عليه بلفظ (بعض نسابة البربر)؟

ومن المعلوم أن بن حزم كان عدوًّا لدُودًا لدَوْلةِ المرابطين لأن فقهاء المالكية في عهدها أوقفوه عند حدِّه، ودفنوا مذهبه في مَهده.

وقد قلده في ذلك ابن خلدون الذي أصرَّ وأسَرَّ لحاجة في نفسه، على الطعن في نسب صنهاجة والتعريض بدينهم ضمن حملة شرسة شنها عليهم ابتغاء التقرب من غرمائهم “المُوحدين” واستجلاب عطفهم، حيث قال في تاريخه: (أجمع نسابة العرب على أن صنهاجة واكتامة حاميتان تركهما تبع إفيرقش عندما فتح إفريقيا، وسألت سلمان بن سابق المطماطي البربري فأبى لي عن ذلك، وقال هما قبيلتان من قبائل البربر).

ولم يبق للمصنف إلا أن يرجح بين القولين بما عنده من المرجحات المعتبرة، بين قول عليه نسابة العرب من فطاحلة العلماء والمؤرخين، وبين قول قرَّره ابن خلدون لحاجة في نفسه، وقد كانت إحَنٌ بينه وبينهم، وليُرضي بذلك دولة “الموَحدين” التي قامت على أنقاض دولتهم.

وقد تعلق ابن خلدون في دعواه باستبعاد مرور اليمنيين من فوق ملوك الروم، وهو غير مستبعد ولا مستحيل عقلا ولا عادة، فهؤلاء الإنكليز استعمروا أندونيسيا وهي في أقصى المشرق، وكم من دولة استعمرت أخرى لا تربطها بها حدود، وإنما تجتاز إليها برا أو بحرا.

ثم جاء الاستعمار الغربي فوجد في تاريخ ابن خلدون ضالته المنشودة، فجعل من الحبَّة قبة، فروَّج ما كتبه من تحاليل اجتماعية في مقدمته المليئة بعيب العرب والتعريض بهم، والمسِّ من كرامتهم، انظر مثلا ما سطره في الفصل الخامس والعشرين وما بعده من مقدمته، ثم طفق أذناب المُحتل من أدعياء الثقافة والتاريخ يكرِّسون هذه الدعوى ويؤكدونها؟!

وابن خلدون قال عنه المؤرخ المختار بن حامدن إنه كان وزيرا للبربر ويُحِبُّ أن يَجمع في اسمهم ما أمكنه أن يجمع معهم، وقد نقل الداه ولد الطالب اعبيدي أنه سمع أهل تونس يقولون إن ابن خلدون همُّه الوحيد أن يَضمَّ العرب إلى البربر؟!، وهو الذي يقال عنه إنه نجح في علم الاجتماع، لكنه فشل في التاريخ.

ومن العلماء والمؤرخين الذين جزموا بحميرية صنهاجة: (الطبري، وابن إسحاق، وابن الكلبي، وابن سلام، وابن الأثير، وابن خلكان، وابن جزي، وابن الخطيب، والزبير بن بكار، والواقدي، والهمداني، والمسعودي، والسهيلي، والجرجاني، واليعقوبي، والسمعاني، والفيروزبادي، والرشاطي، ويوسف بن عمر الأسدي، وصاحب الحلل الموشية، وعبد الغني الإشبيلي، وعبد الحق المالكي، والنويري، والقرطبي، وابن عذارى، وابن حازم، والغرناطي، والسيوطي، والذهبي، والجزري، وبن دريد، وياقوت الحموي، والزركلي…)

ولا بد أن نلفت انتباه القرَّاء الكرام إلى أن أغلب المؤرخين المعاصرين تنحصر دراستهم للتاريخ على مطالعة ما كتبه المستشرقون الغربيون، وكلنا نعرف ما يحمله هؤلاء من حقد وما يضمرونه من عداء للأمة العربية، حيث يُحاولون تقليص دوْر العرب بمُحاربة عُنصُرهم وثقافتهم ولسانهم، باعتبارهم حملة راية الإسلام.

وفي الختام بقي أن نقول إن الانتماء للبربر – إن صحَّ – ليست فيه مذمة ولا معرة فهم أمَّة نبيلة مثل الفرس والترك والكرد والهنود والكلدان والقبط والآشوريين، وكل هذه الأمم كانت لها حضارات عظيمة، وقد بعث الله منها أنبياء كثر، كما خرج منها مئات القادة والعظماء في كل مجال…

ملاحظة: إفريقية كانت تطلق قديما على تونس وما جاورها وقد حملت إسم الملك الحميري (تبَّع إفريقش) بعد فتحه لها وقتله ملكها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى