من أروع ما قرأنا…

حديث في العلم ….. مع العلماء

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فقد قرأت بيان رابطة

العلماء الموريتانيين من موقعها، وهيج عندي حديثا في العلم -وقد يصدر

الأمر من غير أهله- مع السادة العلماء.

رفع الله مكانة العلماء وجعلهم منارات هدى، أدلاء المهتدين، ومربي

المتقين، ومأوى التائبين، وصمام أمان المسلمين، فضلهم على الناس

كفضل البدر على سائر الكواكب، هم ملح البلاد ورواسيها، وقممها

وأعاليها، وهم حماة الدين الموقعون عن رب العالمين.

هكذا العلماء إذا ، لكن الله أبى العصمة لغير كتابه ونبيه صلى الله عليه

وسلم، من أجل ذلك عجت مؤلفات العلماء بثنائية تمجيد العلماء،

والتحذير من زلاتهم، ولنترك الكلام في ذلك لأحد أفذاذ المحققين يقول

الشاطبي في موافقاته: “روي عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: “إني

لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة”. قالوا: وما هي يا رسول

الله؟ قال: “أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائرِ، ومن هوىً متَّبع”

وعن عمر: “ثلاث يهدمن الدين: زلَّة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة

مضلون” وعن أبي الدرداء: “إن مما أخشى عليكم زلة العالم، أو جدال

المنافق بالقرآن، والقرآن حقٌّ، وعلى القرآن منارٌ كمنار الطريق”، وكان

معاذ بن جبل يقول في خطبته كثيرًا: “وإياكم وزَيْغةَ الحكيم، فإن

الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وقد يقولُ

المنافقُ الحقَّ، فتلقَّوا عمن جاء به، فإن على الحق نورًا”. قالوا: وكيف

زيغة الحكيم؟ قال: “هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون ما هذه؟

فاحذروا زيغته، ولا تَصُدَّنكم عنه؛ فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق”

 

 من هنا فإن العلم بمجرده لا يمنح حصانة للعالم، إلا بقدر ما يدور مع

الحق غير مختش في الله لومة لائم.

  قد يختلف العلماء وتتضارب أقوالهم وليس بعضهم حجة على بعض،

ومن الجهل دعوة بعضهم إلى ترك قوله لقول بعض، غير أن هناك أمرين

مثيرين للشبهة ويحملان المنصف على إساءة الظن بالعالم:

من لا تعرف له مواقف يصدع فيها بما لا يكاد يختلف اثنان على أنه حق

بين، فلسانه رطب دائما بمدح الحاكم، فإذا جاء حاكم آخر كان لزاما عليه

أن يضفي عليه من الثناء أكثر مما أضفى على سابقه مظهرا صدقا أكثر،

وهذا ما جعل أدبياتنا الإسلامية تنتج مصطلح “علماء السلطان” وجاءت

كتب التراث غاصة بالنيل منهم، وقد طمر أكثرهم التاريخ فلم يكن لهم

لسان صدق في العالمين. وعلى أمثالهم في أوربا قامت الثورة على

الدين وانبعثت العلمانية فكان شعار الثورة الفرنسية: “اشنقوا آخر ملك

بأمعاء آخر قسيس”.

من يتعسف في الاستدلال في فتاويه، فيلوي النصوص ويبترها من

سياقها أو يستشهد بالواهي الضعيف مقابل الصحيح الصريح، لأن مثل

هذا كسابقه مزور للتوقيع عن رب العالمين.

اختلف الصحابة رضوان الله عليهم خلافات سياسية عميقة، استباحوا

بها الدماء والأعراض، ورغم ذلك ظل كل واحد يحفظ للآخر مكانته وقدره،

ولا يدعي أنه صاحب الحقيقة المطلقة، ولذلك استطاعوا أن يعودوا إلى

التجمع بعد الفرقة، والوحدة بعد التشتت، فخطابات التكفير والتضليل

خطأ وخطيئة، أيا تكن الجهة الصادر عنها.

يختلف فقه الدولة الحديثة عن فقه الإمامة والسياسة الموروث اختلافا

جذريا، ومن يريد إسقاطه عليه تماما، يمارس أمرا ليس من العلم

والفتوى في شيء، لأن الحكم الشرعي مركب من دعامتين:

أولاهما: تصور الواقع على ما هو عليه، لأن الحكم على الشيء فرع عن

تصوره، والتصور الخاطئ يؤدي حتما إلى الفتوى الخاطئة

ثانيتهما: معرفة الحكم الشرعي عبر الأدلة الشرعية.

فكما لا يمكن لجاهل الأحكام الشرعية أن يعرف الحكم الشرعي

لمسألة ما، مهما كان عمق معرفته بها، لا يمكن لعالم شرعي أن يفتي

في واقع لا يدركه.

بناء على ذلك يكون ما ورد في بيان مشايخنا الكرام في رابطة العلماء

من قولهم: “وفيما يخص المؤسسات ومنحها الترخيص أو سحبه، فهذه

مسائل إدارية إجرائية داخلة في حيز المباح، والسلطة هي التي تقدر

المصلحة في الإعطاء أو الأخذ، فمنح الترخيص في الأصل ليس بواجب

وسحبه ليس بحرام” .هذا القول لا ينسجم مع فقه الدولة المعاصرة

القائمة على دستور يحدد الحقوق والواجبات، وعلى قوانين تشرح تلك

الحقوق والواجبات، وتبين شرائطها ومستلزماتها، ضمن عقد اجتماعي

ملزم للحاكم والمحكومين على حد على حد سواء، وهكذا فإن منح

التراخيص لمن استوفى الشروط القانونية هو حق، ومنح الحق واجب،

ومنعه ظلم، كما أن سحب التراخيص بغير عذر قانوني ظلم وحكم الظلم

معروف.

      كذلك فإن ثقافة الثناء على الحاكم وتمجيده ليس من فقه الدولة

في شيء، لأن الحاكم مجرد موظف، وتأديته لعمله لا تستلزم الثناء،

بقدر ما تستلزم المتابعة والمساءلة والتقويم.

 بناء على ذلك، فإن القول بأن الحاكم لا ينصح علانية هو مصادرة محكمة

لحرية التعبير، وهي إحدى الحريات الأساسية التي نصت عليها المادة

العاشرة من دستور الجمهورية الإسلامية، فضلا عن ذلك فإن إسناده

إلى النصوص الشرعية إسناد هش، أدلته لا ترقى إلى مستوى

الشبهات، فالاستدلال بحديث عبادة ابن الصامت في قولهم: ” فلا تصل

الحرية في الشريعة إلى الخروج عليه بقول أو بفعل: (إلا أن تروا كفرا

بواحا عندكم من الله فيه برهان). هو استدلال شبيه بقول أبي نواس:

ما قال ربك ويل للألى سكروا  **  وإنما قال ويل للمصلينا

فقد وقفوا على جملة من الحديث وأهملوا جملة من الحديث نفسه

وهي قوله: “وأن نقول وفي رواية نقوم بالحق أينما كنا، لا نخاف في

الله لومة لائم” فمحاولة الربط بين الإنكار على الحكام بالقول والإغلاظ

لهم في ذلك بالخروج عليهم بالقوة والسيف قول لم يعرف قبل من

يعرفون بالجامية أو المداخلة، نعيذ بالله مشايخنا أن تستهويهم النحل

المستوردة الضالة!!

 لا تكاد مواقف العلماء المنكرة على الحكام تنحصر وهذه نبذ من ذلك:

روى مسلم أن أَوَّل مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ فَقَامَ

إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ فَقَالَ قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ فَقَالَ أَبُو

سَعِيدٍ أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ

فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) فقول أبي سعيد (أما هذا)

فإنها تدل على سقوط الوجوب عن هذا الذي أنكر على الحاكم جهراً أمام

الناس.

ورد في الصحيحين اعتراض عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله

عليه وسلم في صلح الحديبية من حديث سهل بن حنيف عن أبي وائل،

قال: “كنا بصفين، فقام سهل بن حنيف، فقال: أيها الناس اتهموا

أنفسكم، فإنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو

نرى قتالا لقاتلنا، فجاء عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله ألسنا على

الحق وهم على الباطل فقال: بلى فقال: أليس قتلانا في الجنة

وقتلاهم في النار قال: بلى قال: فعلى م نعطي الدنية في ديننا أنرجع

ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: ابن الخطاب إني رسول الله ولن

يضيعني الله أبدا، فانطلق عمر إلى أبي بكر، فقال له مثل ما قال للنبي

صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا فنزلت

سورة الفتح، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر إلى

آخرها، فقال عمر: يا رسول الله أو فتح هو قال: نعم”، ولم ينكر عليه

النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضه ومراجعته في ذلك، بل حاول

إقناعه “إني رسول الله ولن يضيعني: وهذه دلالة بالغة الوضوح على

مشروعية الإنكار على الحاكم والنصح له، ولو كان الناصح مخطئا لأنه

إنما يكلف باجتهاده.

روى الإمام الغزالي “أن هشام بن عبد الملك قدم حاجا إلى مكة فلما

دخلها قال: ائتوني برجل من الصحابة، فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا،

فقال: من التابعين فأتي بطاوس اليماني، فلما دخل عليه خلع نعليه

بحاشية بساطه، ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين، ولكن قال: السلام

عليك يا هشام، ولم يكنه، وجلس بإزائه وقال: كيف أنت يا هشام؟

فغضب هشام غضبا شديدا حتى هم بقتله، قيل له أنت في حرم الله

وحرم رسوله ولا يمكن ذلك، فقال: يا طاوس ما الذي حملك على ما

صنعت، قال: وما الذي صنعت؟ فازداد غضبا وغيظا. قال: خلعت نعليك

بحاشية بساطي، ولم تسلم علي بإمرة المومنين، ولم تكنني، وجلست

بإزائي بغير إذني، وقلت: كيف أنت يا هشام؟. قال الإمام طاوس: “أما ما

فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك، فإني أخلعهما بين يدي رب العزة

كل يوم خمس مرات، ولا يعاقبني، ولا يغضب علي، وأما قولك لم تسلم

عليَّ بإمرة المومنين، فليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب،

أما قولك لم تكنني، فإن الله سمى أنبياءه وأولياءه فقال: يا يحيى يا

عيسى، وكنى أعداءه فقال تبت يدا أبي لهب، وأما قولك جلست بإزائي،

فإني سمعت أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه يقول: (إذا أردت أن تنظر

إلى رجل من أهل النار، فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام). فقال

له هشام: عظني، فقال: سمعت من أمير المومنين علي رضي الله عنه

يقول: إن في جهنم حيات كالقلال، وعقارب كالبغال، تلدغ كل أمير لا

يعدل في رعيته، ثم قام”.

عن سفيان الثوري رضي الله عنه قال: “أدخلت على أبي جعفر المنصور

بمنى، فقال لي: ارفع إلينا حاجتك، فقلت له: اتق الله فقد ملأت الأرض

ظلما وجورا، قال فطأطأ رأسه، ثم رفعه، فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقلت:

إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون

جوعا، فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم، فطأطأ رأسه، ثم رفعه فقال:

ارفع إلينا حاجتك، فقلت: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال

لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهما وأرى ههنا أموالا لا تطيق

الجمال حملها، وخرج”

  لهذا قال النووي في شرح مسلم قال العلماء: لا يختص بالأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات. بل ذلك جائز لآحاد

المسلمين. قال إمام الحرمين والدليل عليه إجماع المسلمين فإن غير

الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف

وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم من غير ولاية. وقال

الإمام الغزالي في الإحياء مع سرد نماذج من صدع السلف بالحق:

“فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين إذا ألزموا، وكانوا يغررون بأرواحهم

للانتقام لله من ظلمهم”

رغم كل ذلك سيظل علماؤنا تاج رؤوسنا ولن نقبل أن يكون المتنبي

أحفظ لود أبي العشائر رغم ما بدر له منه منا لعلمائنا

وكل وداد لا يــــــــــــــــــــدوم على الأذى … دوام ودادي للحسين

ضعيف

ونقول لعلمائنا إذا صدر منهم ما لم نحتسب ما قال المتنبي، ونزيد

طلبهم مراجعة أنفسهم في مثل تلك المواقف حتى لا تكون ندوبا بوجوه

بهيجة، وكلفا ببدور منيرة، فإن الحق قديم … ومراجعة الحق خير من

التمادي في الباطل.

  وعلينا معشر العامة أن نمتثل الحديث الذي رواه أحمد وصححه الألباني

“أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود” ونعلم أن الماء إذا بلغ قلتين

لم يحمل الخبث.

محمدن ولد الرباني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى