مستشار ينتفض:الأمور الكبيرة أوكلت للصغار، بينما أوكلت الأمور الصغار المباركة للكبار

أذرف القلم  في مقال  المناط الأول من نقوش على جدار الذاكرة، أن الأساس الأول لموريتانيا كان  رباط عبدالله بن ياسين ، وكان  من  ملاحم  التأسيس  بعده :حمحمة خيول بني معقل وبني حسان،وعروبة الفلان والتكرور ، ومحاظر ومآذن سرقلة والولوف.

وقلنا إن القطب المدني في المخزن، فشل في خلافة المستعمر في  بسط أجندته التي جاءت بها جيوش  احتلاله وإرسالياته التبشيرية والثقافية ،وفشل هذا القطب  بعد المرحلة التيارية في بناء أحزاب ديمقراطية تؤسس لحكم وطني ذي هوية وطنية، وانتهى المطاف به إلى جماعات ضغط  تجمع المال، وتعبد الفرد، وتفتتن على الكراسي وتوغل في فتن الشهوات ، وتتميع في فتن الشبهات.

وأكدنا أن عهد صناعة الرؤساء  والانقلابات قد أفل، نجما بازغا، وقمرا منيرا، وشمسا وهاجة.، وأن التأسيس لموريتانيا كما بدأت  يتطلب بحثا في الأخطار، وأخطاء الحسابات، والمشتركات، وصناعة المستقبل.

والأخطار أجملناها في أربعة: من يحاول أن يمزق الأرض، أو يدجن السلطة ، أو يحرف الدين، أو يمزق  لحمة المجتمع، باسم العرق، أو الفكر، أو الفتوى، أو اللون….

سواء كان حركة عنصرية انفصالية، أو فكرا تكفيريا مسلحا، أو حزبا شيوعيا ينتج  المانيفستات، أو حركة  شرائحية تنشر الآن بتبجح خطاب الكراهية والتفرقة.

وأوضحنا أن من  أبرز أخطاء الحسابات ثلاثة أوجه  للنأي بالبلد عن السلم والاستقرار، أهم منجز في العشرية  الأخيرة ، أولها: الفشل في العمل الجمعوي داخل الكتل الطلابية  في الجامعات، والأطر النقابية  في أوساط الحركة العمالية، وأطر الحركات الحقوقية والمنتديات العالمية من جهة ، وثانيها: حرب تجفيف منابع الأغلبية بإعمال  تنازع البقاء بين رؤاها المتعددة، وتحويل الأداة السياسية إلى بوق للتصفيق  الممل، والتنفيذية إلى  مقص للبتر المخل.

فلا الخطاب الحزبي يجمع اليوم، ولا  المتحدثون  بخصوماتهم اتحاديين أو تنفيذيين، يقنعون ساربا أو مستخفيا، والعوز ظاهر في  تكميم الأفواه ومحاربة المنتقدين لهذا  الأداء الحزبي ببصره الكليل، وهذا المسؤول العمومي الذي يحاول  أن  يطرد من البيت  أو يخرج من الجماعة  كل من ينتقده ممن  اشترك في معركتي  بدر الكبرى والصغرى، وثبت يرم السهام في سوح جبل أحد، لا غنيمة يريد، ولا مال أو شهرة يهوى.، ولا قنية يبتغيها عند من لا يبدى إلا المساوئ.

فكلاهما  في الحزب المتباهي وخصمه المتماهي، يردد أبياتا تنسب إلى الإمام  الشافعي ويعزوها  البعض إلى عبد الله بن معاوية:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

ولست بهياب لمن لا يهابني

ولست أرى للمرء مالا يرى ليا

فإن تدن تدن منك مودتي

وإن تنأ عني تلقني عنك نائيا

كلانا غني عن أخيه حياته

ونحن إذا متنا أشد تغانيا

وثالث  أخطاء  الحسابات ، تحول  حرية الإعلام  من نعمة إلى  كومة  ذلك  أن تمييع  ثم إغلاق القنوات المرئية والمسموعة، وانحدار سقف المهنية في وسائل الاتصال الجمعوية، ووسائل  إعلام الخدمة العمومية  بينت خلال  السنوات  الأخيرة الثلاثة، إفلاس الخطاب السياسي عبر هذه  الوسائط المتعددة، وتحوله إلى الشرائحية، وخطاب النوع، والجهة والقبيلة، وتمجيد الفرد والترويج للزبونية والدوغمائية و النفعية.

إعلام الفرد  والطائفة هذا ، كان  ولا يزال مضرا ومبيرا للمشتركات،  ومناقضا  ومتعارضا  مع قيم الوحدة الوطنية.

حلقة المناط الثاني من هذه السلسلة، لا تتساءل عن المأموريات ولا عن الأحزاب، ولا عن القيادات والحكومات،بل عن  الوطن الموريتاني  وأيقوناته المشتركة: الدين  والهوية، الحضارة واللغة، الحاضر والمستقبل.

ونبحث بلا  تورية أسباب زوال هذه  الأيقونات ، وعن أهمية إجماع وطني، أو حوار وطني جامع  تكون من مخرجاته: رؤية  موجبة، تحمينا من إرث مائة سنة من الاحتلال الغربي، و سالبات سبع وخمسين سنة من  التشاغل بالصراع على السلطة والثروة، والانكفاء إلى “الأنا” ومثالب  تولية  نخب  {العناد}، ونخب {الزناد}، ونخب{ الاستنساخ}؛ “عظائم  وصغائر الأمور”.

لقد قلنا إن ” قطب الزناد”،  منذ عهد أول ملوك المملكة البابلية “حمورابي” 1800 ما قبل الميلاد، إلي عصر “اترامب “2018، هو  القوة الخشنة، التي سادت  القوة الناعمة ، والمدنية، و ساست  الأنظمة الديمقراطية، والأحادية.

وقلنا إن هذا  القطب  في موريتانيا،  “قطب الزناد” ، كان أقل ضررا وبجرا، وأكثر نفعا ومزايا ايجابية على الأرض  والسكان، من قطب  نخب “الاستنساخ والعناد”، التي تعاونت ولا تزال تشرئب أعناقها للتعاون مع القوة الخشنة للاستعمار، حقب  حكومات مدنية سالبة وغير موجبة، أكلة التراث أكلا لما،  و جلبت  عصرا  من النحاسة والنذالة، أبعد بتواطئ المئذنة، و استهزأ بتخاذل بالمحظرة ، ومهدت بتغافل  لمن  يسعي لأن  يخرب  بني  الموريتاني والموريتانية.

إن لم  نقرأ اليوم حال الأمة  الموريتانية وشبابها ، وحال المدرسة وعيالها ، وغزو الأفلام المدبلجة للبيوت،  وصراع الديكة السياسية  المذبوحة ومشاهدها، وحال تجمعات الأحزاب ومنافقيها.. وقمنا بإصلاحات  هيكلية  ، تنقذ الغريق وتشفي السقيم..

 فأسباب زوال الأمة الموريتانية ،  ضربت بأطنابها، والمزن التي كانت تروى  الظمآن بصحارينا أقلعت بمعصراتها.

سئل الخليفة  العباسي أبوجعفر المنصور، أحد حكماء بني أمية، عن سبب زوال دولتهم فقال :{أمور كبيرة أوليناها  الصغار، و أمور صغيرة أوليناها الكبار، وأبعدنا الصديق ثقة بصداقته، وقربنا العدو اتقاء لعداوته، فلم يتحول العدو صديقا، وتحول الصديق عدوا، فضعنا ما بين الإفراط والتفريط؟؟}.

أمور كبيرة مثل: إنشاء  خطط الادخار، و إصلاح التعليم، والإدارة، والقضاء، والإعلام، والاستثمار في  بناء المسجد، وعلوم المحظرة، وأخلاق الأسرة، وتشييد المصانع، والمساكن، ومزارع تنويع الإنتاج،وضمان بنات تكفل حرية الرأي والمنافسة و الابتكار….أوليناها للصغار؟

أمور صغيرة و مباركة  مثل: حق العالم، وحق المجاهد، وحق الفقير ، وحق اليتيم ، وحق الضعيف، وحق  الأشعث  الأغبر المدفوع بالأبواب، وحق السائل، وحق الأرملة ، وحق المعدوم، وحق المظلوم، وحق العاطل، وحق المريض، وحق  العاني والمعتر….أوليناها للكبار.

أبعدنا الصديق و الوفي: العالم المبلغ لرسالات الله الذي لا يخشى إلا الله، والمقاوم، والمجاهد اللذان لا يريدان إلا إعلاء كلمة الله، والوطني المخلص الذي جعل همه خدمة أمة، وبناء أجيال، وهوية، وقيم،  وحضارة..

قربنا العدو المخادع: من جعل همه دنياه، يأخذ أذناب البقر، ويرضى بالزرع، ويعبد الدينار والدرهم ، ويخشى بني  الأصفر، ويتعزى بعزاء الجاهلية الأولي، لا يأتون الصلاة إلا دبرا، و لا يقربون المساجد إلا هجرا، ولا يذكرون الله إلا قليلا، ترى الحفاة العراة منهم  رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، لا إلا ولا ذمة  يحفظون، أشداء على المؤمنين، رحماء بالكيفرين…

وخلف من بعد هؤلاء  الملاك ، خلف أضاع الصلاة عماد  الدين، واتبع الشهوات عواصف  الفتن، رأيناهم  كبكبوا  في الغي، هم وأوطانهم وأحزابهم وشيعهم.. محارقهم لا تزال مشتعلة، وأنواع النكال بهم والعياذ بالله مشاهدة  وموزعة…

عقل ذلك من عقله، وغفل عنه من غفل عنه،  علمه من علمه، وجهله من جهله.

وإذا كانت تلك أسباب الزوال للأمم والحضارات متمحضة ومشاهدة ، بلا مراء وبلا جدال ….

فان قوة الموريتانيين اليوم في جيوشهم وجنودهم، ونعمتهم  في وطنهم  آمنين في السرب، منعمين في التأسيس والتشييد، قد ذهب عصر النفير إلى الحروب  بلا سبب، والعبادة للبشر  بلا دليل ولا أرب.

كنا في حقب المستعمر والمستلب،  كالمعزى في الليلة المطرة، بلا زاد ولا أعتاد، بلا فكر ولا رؤية، بلا هويات وأجناد، أرضنا مستباحة، وعرضنا مأكول، وغلمان بني الأزرق من الخوارج يسطون بفناءه سطوا  ويمرحون ببحاره ويابسته عدوا… حتي عز الوطن بعز الحميد.

هذا  الأمن  من الخوف،  وهذا  الأمن من الجوع، هما جناحان غير مهيضان لمن يقيم منكم  الصلاة  ويؤتي الزكاة ، ويحمي العرض ويأوي إلى ركن شديد، وهذا  القطب   الذي يشد أياديه  على الزناد  هو العصمة لكم  من  إسناد ” الأمور الكبار” إلى الصغار، وتولية {الأمور الصغار} إلى الكبار، وتسمين “العدو المفلس”، وتبليس وشيطنة {الصديق  المحب}.

تلك سنن الزوال، مشفوعة بباسقات التمكين.. الأولى خاوية على عروشها، والثانية راسيات كالجبال، ممطرة كالمزن الثقال، تعطي عطاءات  لا يد مغلولة إلى العنق  تشدها، ولا يد مبسوطة بالفساد في الأرض ترعاها.

عطاء ربك، أيها  الفقير: عطاء غير مجذوذ، وعطاء غير مقطوع، فلا تستبدل  الأعلى  بالأدنى، واعلم أن الله غالب ، وأن راية  الموحدين هي دائما : لا غالب إلا الله.

محمد الشيخ ولد سيدي محمد

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى