من هو خلف ولد عبد العزيز على الرآسة

ظلت ظاهرة تقاعد الموظفين العسكريين والمدنيين بموريتانيا بداية النهاية لمجمل النخب العسكرية والمدنية التى تولت تسيير الجيش أو قادت بعض الدوائر الحكومية خلال الفترة الماضية، مهما كان قربها من دوائر صنع القرار قبل التقاعد أو بعده، مع استثناء محدود حجبه تواضع الحضور فى المشهد وضعف الفاعلية و التأثير فى الرأي العام الداخلى، مهما كانت الحظوة والمنصب الإنتخابى التى يحظى بهما المتقاعد بعد رحيله من السلطة بدعم من الفاعلين فيها أو المحيط الذى أستثمر فيه قبل الإحالة للمعاش.

 وقد حاول الرئيس محمد ولد عبد العزيز خلال السنوات الأولى من حكمه إنقاذ بعض رفاق الحكم والسلاح، عبر التمديد لكبار الضباط المحسوبين عليه، والسماح لبعض المدنيين بالاستمرار فى تسيير بعض الدوائر الإدارية التى كانوا يشغلونها، معتمدا على بعض النصوص القانونية التى تسمح للرئيس بمنح الرتب المنصوص عليها فى النظام الداخلى للمؤسسة العسكرية، لبعض قادة الجيش بحكم وظيفته الدستورية ( القائد الأعلى للقوات المسلحة) والإبقاء على بعض كبار الموظفين فى الدوائر التى يشغلونها بحكم الاستثناء الممنوح له فى قانون الوظيفة العمومية، رغم مجمل التعديلات التى أجريت عليه.

لكن مساعى الرئيس لم تثمر فى المحافظة على العديد من رموز المؤسسة الذين شاركوه أكثر من انقلاب، أو المدنيين الذين دعموه فى أكثر من انتخاب، بعدما توارى البعض عن الواجهة السياسية مكتفيا بالعيش خارج البلد أو داخله بما جنته يداه من أموال خلال فترة نشاطه، أو الاحتماء بمد قبلى يبقيه داخل دائرة التداول الإعلامي مع قليل من التأثير. بينما أختفى آخرون بفعل الفاقة أو ضعف السند القبلى والسياسى، وظهور أشخاص جدد فى الحيز الجغرافى الذين ينشطون فيه، مستفيدين من أدوات السلطة ورمزية الحاكم الذين ينشطون فى محيطه.

غير أن الضابط العسكرى المتقاعد وعضو المكتب التنفيذى الحالى للحزب الحاكم الشيخ ولد بايه شكل حالة استثنائية بالنسبة للنخب الإعلامية والسياسية المنشغلة بالواقع القائم داخل البلد، والمتفرعة لأخبار الرئيس وأركان حكمه، بل والمنشغلين بما بعد الرئيس إن هو قرر المغادرة الطوعية احتراما لوعده وللدستور الذى أقسم عليه أمام الملايين من أبناء الشعب فى فترتين متتاليتين (2009-2014).

من “نهضوي” محبط  إلى مشروع رئيس

ولد العقيد المتقاعد الشيخ ولد بايه فى ولاية تيرس زمور قبل استقلال البلاد عن فرنسا بسنوات قليلة، وفيها تلقى تعليمه الإبتدائى وتعايش مع عدد من نخب البلد وقادة الحراك العسكرى والسياسى فى الجوار الإقليمى ( البوليساريو)، وخطى أولى خطواته  نحو عالم السياسية، متأثرا بحركة النهضة التى كان أيقونة الشمال “أحمد باب ولد أحمد مسكه” أحد أبرز رموزها قبل الاستقلال وبعده، وهو الرجل الذى أثر فى مواقف العديد من تلاميذ المدارس وأبناء المنطقة بحكم السمعة التى أكتسبها جراء انخراطه المبكر فى عالم السياسية، ووقوفه مع آخرين فى وجه الحكومة إبان الانتداب الفرنسى المباشر.

يتذكر الشيخ ولد بايه كيف حفظ نشيد الحركة مع أقرانه خلال مشواره الدراسى فى ابتدائية المدينة التى يتولى اليوم تسيير مجلسها البلدى ،(هذا آخر نومنا  .. بلادنا لاتشتكى) وهو النشيد الذى به ظل يتمسك إلى غاية تغيير النشيد القديم بآخر هو  ممن نظر له وأقتنع به، وتصدر الحملة الإعلامية المناهضة للمتمسكين بغيره.

دخل الشيخ ولد بايه المؤسسة العسكرية بشكل مبكر، وفى كلية مكناس تلقى تعليمه العسكرى مع عدد من رفاقه اليوم فى الفترة مابين 1977-1980 ، قبل أن يعود إلى موريتانيا برتبة ملازم أول. وهي الرتبة التى تطور منها إلى رتبة عقيد فى آخر مشواره داخل المؤسسة العسكرية.

 تلك المؤسسة التى عاش فيها بضعة عقود، متحركا بين ثكنات الجيوش دون أن تتاح له فرصة القيادة بشكل مباشر، رغم الفاعلية فى القوات البحرية التى كان أحد ضباطها البارزين خلال العشرية الأخيرة من عمله داخل الجيش، لكن هيمنة الضابط البارز العقدي عبد الرحمن ولد لكور على مقاليد القوات البحرية كان محل تسليم ، بحكم الأقدمية داخل المؤسسة العسكرية والعلاقة القوية بالرئيس الممسك ساعتها بزمام الأمور العقيد معاوية ولد الطايع ، إلى غاية 2006 حينما أعتقل ولد لكور ورفاقه بتهمة التخطيط لانقلاب عسكرى مضاد للمجلس العسكرى للعدالة والديمقراطية الحاكم بقيادة العقيد اعل ولد محمد فال عليه رحمة الله.

شكل تعيين العقيد الشيخ ولد بايه على رأس المندوبية المكلفة برقابة الصيد والتفتيش البحري 2005 نقطة تحول بارزة فى مسيرته المهنية ومشواره السياسى، أو كما يقول هو عن نفسه فى تعزية كتبها إبان رحيل العقيد اعل ولد محمد فال “البوابة التى عبر منها بعد ظلم كبير”.

لقد حاول الشيخ ولد بايه تغيير قواعد اللعبة بقطاع الصيد، مستغلا تفويضا بالغ الأهمية تلقاه من المجلس الأعلى للدولة بقيادة العقيد اعل ولد محمد فال ، وبدفع قوى من صديقه الممسك بالفعل بزمام الأمور ساعتها العقيد محمد ولد عبد العزيز قائد الحرس الرئاسى أنذاك..

يتذكر الشيخ ولد بايه أول مساعدة علنية قدمت له من هرم السلطة بعد تعرضه لحملة قوية من الفاعلين فى قطاع الصيد، وبعض الأوربيين المنزعجين من توجهه الجديد، وبعض رجال الأعمال المقربين من هرم السلطة ساعتها، لقد كانت بمثابة التفويض أو الشيك على بياض، حينما أعلن العقيد اعل ولد محمد فال فى خطاب ألقاه بنواذيبو مطلع يناير 2006 ” إن الممسكين بمندوبية الرقابة البحرية يقومون بالواجب الذى كلفتهم به الدولة ولهم كامل الحق فى اتخاذ التدابير اللازمة لتحقيق ذلك مهما كانت  الجهة المتضررة”.

لم يكن تلك الهدية الوحيدة التى أستلمها الرجل من أقرب رفاقه ، بل إن العقيد اعل ولد محمد – وتحت إلحاح من ولد عبد العزيز – وقع مرسوما يمنحه بصفة استثنائية أربع سنوات فى الخدمة ، بعد رسالة تسلمها الرئيس من وزير الصيد سيدى محمد ولد سيدينا تدعوا لإعادة النظر فى رسالة التقاعد الموجه للعقيد الشيخ ولد بايه بحكم الخدمة التى قدمها للقطاع والتطور الذى عاشته الرقابة البحرية خلال فترة تسييره القصيرة (سنة ونصف فقط قبل قرار التمديد).

وقد كان للامتياز المادى الذى أقره المجلس العسكرى للعدالة والديمقراطية لصالح الرجل والعاملين معه، كان له الأثر البالغ فى تسيير أمور المندوبية، وضبط قطاع بالغ الصعوبة، فقد باتت كل الأجهزة التابعة له مسلطة على المخالفين لقواعد الصيد و المنتهكين للسيادة الوطنية أو المستنزفين للثروة البحرية دون تفويض من الدولة، مع علاوة تبلغ 48% من كل مخالفة تم تحصيلها، بعدما كانت الرشوة أبرز خطر يتهدد القطاع والعاملين فيه خلال العقود التى سبقت تعيين الرجل على رأس الجهاز الذى تحول اليوم إلى خفر للسواحل بإمكانيات كبيرة وتجهيز متطور ..

ميزة جعلت الرجل فى مرمى منتقديه من كبار رجال الأعمال والصحافة والمدونين، لكنها فى نظر أنصاره تكرمة مستحقة، بعدما تم ضبط القطاع لأول مرة، وباتت المياه الموريتانية مؤمنة من “أنجاكو” إلى “لكويره” بقوة الرجال وأفواه البنادق، ناهيك عن تسيير الثروة البحرية وفق الخطط السنوية للقطاع، بعدما كانت الرخص الممنوحة للفاعلين فيه مجرد واجهة للنهب والتبذير.

مفاوض مفوض من طرف الرئيس

لم يكتف العقيد الشيخ ولد بايه خلال السنوات الأولى بتسيير مندوبية الرقابة البحرية ، بل إنه أعتمد كمفاوض عن الحكومة مع الأوربيين، وهو القرار الذى يقول عنه إنه أحدث نقلة نوعية فى مجال الصيد منذ 2005، مرجعا الأمر إلى تغيير العقلية السياسية التى تدار بها الدولة، والروح الوطنية التى تم التعاطى بها مع ملف الصيد بعد أن ظل لعقود مجرد ثروة منهوبة من طرف الأجانب، ويستفيد من فتاتها بعض الخواص.

ويذكر ولد بايه فى خرجاته الإعلامية المحدودة بتمرير اتفاقية الصيد سنة 2006 والظروف التى عاشها المفاوض الأوربى قبل توقيها، كما إن الابروتوكول  الملحق بالاتفاقية تم تجديده 2008 و2012 و2014 ، ثم بدأ التفاوض من أجل تجديده لفترة تمتد إلى أربع سنوات (2015-2019) ، مع رفض كل المطالب التى تقدم بها الأوربيون خلال الفترة الأخيرة بشأن العديد من النقاط المصنفة رسميا ضمن دائرة الثوابت الوطنية، وهو التفاوض الذى كاد يعصف بالاتفاقية المشتركة مع الأوربيين.

لقد كانت مرحلة 2015 بالغة التعقيد بحكم التوتر مع الأوربيين، وعنها يقول الشيخ ولد بايه ” لقد دفعوا إلينا فى البداية بوفد يقوده أحد أباطرة التفاوض تسعينيات القرن المنصرم “سيزاري روبيرت” باعتباره ممثلا ثقة لدي أصحاب السفن الأوربية، بحكم تجربته الطويلة أيام الفوضى وغياب الدولة الموريتانية، ولكننا فى النهاية أرغمناهم على تغيير وفدهم المفاوض، لقد كانت جلسات عصيبة، وكانت صريحة لحد “النرفزة”، كان عليهم أن يدركوا بالفعل أن موريتانيا تغيرت، وهو ما فهموه فى النهاية، وغيروا الوفد ورئيسه الذي يعود لحقبة مضت من تاريخ الاتفاقيات المذلة مع الأوربيين.”

لقد مكنت فترة التفاوض والتفويض الذى منح للرجل من تحقيق عدة نقاط إيجابية لصالح الثروة السمكية بموريتانيا والمهتمين بها، لقد تحول الأمر من بيع رخص للصيد إلى بيع الكميات المصطادة، مع إلزامية التفريغ فى الموانئ الموريتانية بعدما ظلوا يغادرون باتجاه دولهم دون مراقبة أو تفتيش، مع إلزامهم باكتتاب 60% من العمالة الموجودة على ظهر السفن من الموريتانيين، ومنعهم من صيد “الرخويات” وتحديد مسافة يحرم الاقتراب منها، لتظل مخصصة للعاملين فى الصيد التقليدى بموريتانيا.

من المندوبية إلى البلدية ..

أنتهت فترة التمديد التى منحت للعقيد المتقاعد الشيخ ولد بايه سنة 2010، وغادر الرجل المندوبية المكلفة بالرقابة البحرية بعد سنوات من الصراع والحرب الإعلامية مع بعض الدوائر المتضررة منها، لكنه لم يغادر مرابع وزارة الصيد بالكلية، فقد تم تعيينه مستشارا لوزير الصيد والاقتصاد البحرى، وظل مكلفا بالتفاوض مع الأوربيين ( أهم ملف فى الوزارة) ومتابعة العديد من ملفات القطاع الشائكة رغم انشغاله بالسياسة والعمل البلدى  خلال السنوات الأخيرة.

ومع نهاية 2013 أستدعاه الرئيس محمد ولد عبد العزيز لمهمة جديدة، لكنها سياسية هذه المرة، فالرجل الذى عاش داخل المؤسسة العسكرية، وأمضى أغلب وقته على ضفاف المحيط، ستناط به هذه المرة مهمة أخرى، إنها إدارة أهم مجلس بلدى فى “تيرس زمور”، بعد أن سقطت المدينة فى يد المعارضة 2006 وسقط أبرز رموزها، رغم الضغط والمال والوجهاء وانحياز الجيش.

لم تكن طريق الشيخ ولد بايه مفروشة بالورود، فمع انطلاقة الحملة الانتخابية نوفمبر 2013 ضجت الساحة الإعلامية بتصريحات منتقدة للرجل ، بعد تصريحه الشهير ” متلاو ومتليت آن”.

 كان المرشح الشيخ ولد بايه يحاول تبرير موقفه من موقع المسؤولية فى مهرجان جماهيرى بالمدينة، محاولا شرح مصادر تمويله لحملته البلدية ومصادر ثروته التى أكتسبها خلال عمله فى المندوبية والذى أثار الكثير من اللغط.

لكن الحملة الإعلامية الشرسة التى تعرض لها الرجل، لم تمنعه من الوصول إلى مبتغاه رئيسا للمجلس البلدى فى مدينة “أزويرات” عن حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم، بعد جولة إعادة ساهم فيها تعدد المرشحين للمنصب وحجم الإستقطاب الجهوى بالمدينة العمالية ، وخلافات الأغلبية الداعمة للرئيس.

شكلت بلدية “أزويرات” منطلق ولد بايه نحو السياسية، فمنها تصدر رابطة العمد الموريتانيين، وعبرها أنتخب نائبا لرئيس رابطة المدن والحكومات المحلية الإفريقية، وقياديا برابطة العمد الفرانكفونيين، مع اختياره كعضو فاعل فى المكتب التنفيذى لحزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم فى آخر تغيير يجريه مجلسه الوطنى.

وقد حاول ولد بايه – رغم انشغاله بالمجلس البلدى- تسيير ملفه السابق فى وزارة الصيد، وشركات الأمن الخصوصى، أهم مشروع أستحدثه الرجل مع رفيقه الرئيس محمد ولد عبد العزيز لإحتضان الآلاف من المتقاعدين من أبناء المؤسسة العسكرية والأمنية خلال السنوات الأخيرة، وهو المشروع الذى يتولى الشيخ ولد بايه تسييره بالفعل بحكم منصبه كرئيس مجلس إدارة للمؤسسة، بعدما أحيلت إدارتها المباشرة لضباط آخر هو العقيد المتقاعد سيدى ولد الريحه ، أحد رفاق ولد بايه المنحدرين من مدينة “بير أم أغرين”.

عمل ولد بايه على استيعاب خصومه وأنصاره داخل رابطة العمد، عبر انتزاع صلاحيات أوفر للمجالس المحلية من صديقه الرئيس، وأستصدر مراسيم مهمة لصالح العمد ، بعضها معنوى والآخر يمنح بعض الحقوق المادية، كرواتب العمد ونواب العمد، وأعاد توزيع الدعم الموجه للمجالس المحلية بما يسمح للعمد بالتحرك بعد فترة من التقييد بأغلال الاختصاص والنظم القانونية المسيرة للدعم العمومى بموريتانيا.

ظلت العلاقة بين الرئيس محمد ولد عبد العزيز والشيخ ولد بايه معلومة لعدد محدود من كبار القوم وصناع القرار بالبلد خلال الفترة الأولى من حكم الأول، لكنها باتت خلال السنوات الأخيرة محل تداول واسع ، بحكم الراحة السنوية للرئيس مع العمدة فى ضواحى تيرس زمور، وإعلان ولد عبد العزيز بالفعل عن صداقة الأثنين فى برنامج تلفزيونى حاول فيه التمييز بين الموظف والصديق، ناهيك عن التفويض المطلق له فى العديد من القضايا المتعلقة بالصيد والأمن وتسيير التنمية بمدن الشمال ( نواذيبو / تيرس زمور).

ويعتقد بعض المتابعين للشؤون السياسية بالبلد والمهتمين بمسار الرؤساء والمرشحين للرئاسة، أن الثقة المطلقة بين الرجلين، والنظرة الموحدة للعديد من قضايا الداخل والخارج، والمصالح المشتركة بينهما، قد تتخطى حدود العلاقة بين العمدة و الرئيس إلى تبادل يضمن استمرار مشروع الأثنين، ويحقق لهما الاستمرار فى السلطة ما بعد 2019 الموعد المحدد سلفا لمغادرة الأخير بحكم قوة أحكام الدستور وحتمية إجراء تغيير داخل البلد.

سيد أحمد ولد باب / مدير موقع زهرة شنقيط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى