بين الحقيقة و الخيال

لم تتلوث أعلام موريتانيا وجُلُّ دول المغرب العربي (تونس، المغرب، الجزائر) بألوان السير مارك سايكس التي صبغت معظم رايات المشرق العربي. ذلك أن نشوء بعض أعلام تلك الدول سبق وجود سايكس بنحو ألف 1000 عام. فالمغرب مثلا اتخذ أول علم له في عهد المرابطين (1073 – 1147 م) ولأن بعضا آخر استمد مرجعيته من العلم العثماني (اتخذت تونس أول علم لها في عهد حسين باي الثاني سنة 1827 وهو أحمر اللون يشبه العلم العثماني.

 وكان للجزائر – هي الأخرى- علم أحمر كالعلم العثماني في عهد الدايات، أنزله النقيب “جو فروا” من سمائها يوم احتلها في عهد الداي حسين (في 4 يوليو 1830). بينما اعتمدت موريتانيا اللون الأخضر و”النجم والهلال” أسوة بباكستان التي اعتبرها مؤسسو موريتانيا مثلا أعلى بصفتها الجمهورية الإسلامية الأولى والوحيدة في العالم آنذاك.
وكان من الطبيعي أن تكون القصائد التي شكلت أناشيد الطرف الغربي من أمة البيان أحدث بكثير من أبيات النشيد الياباني: (الشيخ بابه، مصطفى صادق الرافعي، مولاي علي الصقلي، مفدي زكريا). علما بأن النشيد المغربي الشريف ظل من عهد الاستقلال إلى غاية 1970 لحنا دون كلمات ألفه النقيب الفرنسي ليومورغان رئيس الفرقة الموسيقية للحرس الشريفي.
وإذا ما عرجنا على ظروف وخلفيات نشأة واقتباس العلم والنشيد الموريتانيين الحاليين فسنجدها – لا محالة- أنقى وأشرف وأبدع من كثير من صنوف وصروف نشأة كثير من الأعلام والأناشيد الأخرى؛ وخاصة تلك المعاصرة لهما. ونجد أن لا علاقة لهما بإملاءات المستعمر الفرنسي وأعوانه ولا بأشكاله وألوانه المتداولة يومئذ.
فلا علمنا الحالي كان مستوحى من علم le spahis كما يدعي بعضنا، لما بينهما من اختلاف في الألوان والأشكال والرسوم وغيرها، ولعلو همم مؤسسي الجمهورية الذين استطاعوا بحكمتهم وشجاعتهم وإيمانهم أن يخلقوا  الشروط الضرورية ويستفيدوا من ظروف العصر المواتية لتحقيق استقلال وطنهم بالطرق والأساليب الملائمة للحالة الموريتانية التي تميزت يومئذ بغياب وعي شعبهم الذي كان يغط في سبات عميق، وبضعف وتشتت النخبة بين مختلف الاتجاهات والأهواء السائدة آنذاك. وقد نجحوا حيث فشل آخرون فشلا ذريعا. وهذا ما لم يفهمه – ولن يفهمه- بعض هواة ومشعوذي السياسة الذين يحاكمونهم اليوم بحماس وصلف بطوليين انطلاقا من واقعنا وما وصلت إليه البلاد والعالم من رقي في ضحى القرن الواحد والعشرين، لا من واقعهم هم وما كانت عليه البلاد والعالم من تخلف في منتصف القرن العشرين. وإن شهادة الذين شاركوا في تصميم العلم واختيار النشيد؛ والذين لا يزال بعضهم أحياء بحمد الله، لهي أقوى دليل يقطع الشك باليقين على شرفهم وشرف ذلك العَلَم. ولا هو علم “مقتبس من علم السنغال السابق.. فرضه علينا الاستعمار” حسب قول “مواطن” في “البديل” جلُّ همه بخس علم بلاده “شريويطه” والوقيعة بين موريتانيا والسنغال، دون أن يستند إلى منطق أو دليل؛ لحد أنه يعطي السنغال الذي حرمه مما يمت بصلة للإسلام “فلا أثر عندهم لملابس أهل الجنة الخضر، أو قسم الله بالنجم…” والذي نلنا وإياه درجة متساوية من الاستقلال رغم اختلاف أوضاعنا (يعطيه) حق التخلي عن علم اتخذه مدة سنة لأنه أصبح مستقلا، وحرم من هذا الحق بناة وطنه “نخبة متعجلة إعلان الجمهورية تحت أي ظرف، وبأية شروط” الذين لو كانوا بهذه الدرجة من الغباء والضعف والعجلة التي يدعيها لما اختاروا علما أصلا، ولاحتفظوا بالعلم الفرنسي بدل السنغالي السابق، ولظلوا في نعيم جزيرة سان لويس اندر تحت رحمة السنغال، بدل أن يهاجروا إلى الصحراء ويسكنوا في واد غير ذي زرع لا بيت فيه.
ولا علمنا المقبل الذي صوت عليه واختاره الشعب “الذي نساق إليه هو علم گوميات الحقيقي وليس علم المقاومة” كما يقول بعض مثقفينا الغيورين؛ ذلك أن العثور على خط أو خطوط حمراء في وسام فرنسي قديم لا ينهض دليلا قاطعا على خبث نخبة حاكمة وزيف إرادة أمة في جعل علم الوطن أكثر رمزية واستجابة للتعبير عن الأمجاد والتأصيل لارتباط الشعب بالوطن والاستعداد للتضحية من أجله. ولعل رعونة بعض مروجي العلم الجديد، وحماس بعض المتشبثين بالعلم القديم هما ما أوقع البعض – دون أن يدري- في خطأ “مواطن البديل” حين زكى جيل التأسيس وجرح جيل إعادة التأسيس – “والكل باء”- رغم كون الأخير أتم نظرا وأنضج شعبا وأوفر وسائل، وفد نالت خططه ثقة المتحاورين وتزكية استفتاء شعبي! لقد كان من الأجدر والأزهر بجميع المخلصين ممن هب ودب في هذا المجال أن يقولوا ما قاله بحق السيد محمد فاضل امصبوع: “نعم علمنا القديم شريف وعلمنا الجديد شريف…”
هذا عن العلم. أما النشيد…
يتبع

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى